مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
وأما الكلمات التي تروى عن بعضهم : من التزهيد في العلم ، والاستغناء عنه . كقول من قال : نحن نأخذ علمنا من الحي الذي لا يموت ، وأنتم تأخذونه من حي يموت .

وقول الآخر - وقد قيل له : ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزاق - فقال : ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق ، من يسمع من الخلاق ؟

وقول الآخر : العلم حجاب بين القلب وبين الله عز وجل .

وقول الآخر : لنا علم الحرف . ولكم علم الورق .

ونحو هذا من الكلمات التي أحسن أحوال قائلها : أن يكون جاهلا يعذر بجهله ، أو شاطحا معترفا بشطحه ، وإلا فلولا عبد الرزاق وأمثاله ، ولولا أخبرنا وحدثنا لما وصل إلى هذا وأمثاله شيء من الإسلام .

[ ص: 439 ] ومن أحالك على غير أخبرنا وحدثنا فقد أحالك : إما على خيال صوفي ، أو قياس فلسفي . أو رأي نفسي . فليس بعد القرآن وأخبرنا وحدثنا إلا شبهات المتكلمين . وآراء المنحرفين ، وخيالات المتصوفين ، وقياس المتفلسفين . ومن فارق الدليل ، ضل عن سواء السبيل . ولا دليل إلى الله والجنة ، سوى الكتاب والسنة . وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي من طرق الجحيم ، والشيطان الرجيم .

والعلم ما قام عليه الدليل . والنافع منه : ما جاء به الرسول . والعلم خير من الحال : العلم حاكم . والحال محكوم عليه . والعلم هاد . والحال تابع . والعلم آمر ناه . والحال منفذ قابل ، والحال سيف ، إن لم يصحبه العلم فهو مخراق في يد لاعب . الحال مركب لا يجارى . فإن لم يصحبه علم ألقى صاحبه في المهالك والمتالف . والحال كالمال يؤتاه البر والفاجر . فإن لم يصحبه نور العلم كان وبالا على صاحبه .

الحال بلا علم كالسلطان الذي لا يزعه عن سطوته وازع .

الحال بلا علم كالنار التي لا سائس لها .

نفع الحال لا يتعدى صاحبه . ونفع العلم كالغيث يقع على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر .

دائرة العلم تسع الدنيا والآخرة . ودائرة الحال تضيق عن غير صاحبه . وربما ضاقت عنه .

العلم هاد والحال الصحيح مهتد به . وهو تركة الأنبياء وتراثهم . وأهله عصبتهم ووراثهم ، وهو حياة القلوب . ونور البصائر . وشفاء الصدور . ورياض العقول . ولذة الأرواح . وأنس المستوحشين . ودليل المتحيرين . وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال .

وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين ، والغي والرشاد ، والهدى والضلال .

به يعرف الله ويعبد ، ويذكر ويوحد ، ويحمد ويمجد . وبه اهتدى إليه السالكون . ومن طريقه وصل إليه الواصلون . ومن بابه دخل عليه القاصدون .

[ ص: 440 ] به تعرف الشرائع والأحكام ، ويتميز الحلال من الحرام . وبه توصل الأرحام وبه تعرف مراضي الحبيب ، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب .

وهو إمام ، والعمل مأموم . وهو قائد ، والعمل تابع . وهو الصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة ، والأنيس في الوحشة . والكاشف عن الشبهة . والغنى الذي لا فقر على من ظفر بكنزه . والكنف الذي لا ضيعة على من آوى إلى حرزه .

مذكراته تسبيح . والبحث عنه جهاد . وطلبه قربة . وبذله صدقة . ومدارسته تعدل بالصيام والقيام . والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام .

قال الإمام أحمد رضي الله عنه : الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب . لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين . وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه .

وروينا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة .

ونص على ذلك أبو حنيفة رضي الله عنه .

وقال ابن وهب : كنت بين يدي مالك رضي الله عنه . فوضعت ألواحي وقمت أصلي . فقال : ما الذي قمت إليه بأفضل مما قمت عنه .

ذكره ابن عبد البر وغيره .

[ ص: 441 ] واستشهد الله عز وجل بأهل العلم على أجل مشهود به ، وهو التوحيد وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته . وفي ضمن ذلك تعديلهم . فإنه سبحانه وتعالى لا يستشهد بمجروح .

ومن هاهنا - والله أعلم - يؤخذ الحديث المعروف يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله . ينفون عنه تحريف الغالين ، وتأويل المبطلين .

وهو حجة الله في أرضه . ونوره بين عباده . وقائدهم ودليلهم إلى جنته . ومدنيهم من كرامته .

ويكفي في شرفه : أن فضل أهله على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب . وأن الملائكة لتضع لهم أجنحتها ، وتظلهم بها ، وأن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في البحر ، وحتى النمل في جحرها ، وأن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير .

ولقد رحل كليم الرحمن موسى بن عمران - عليه الصلاة والسلام - في طلب العلم [ ص: 442 ] هو وفتاه ، حتى مسهما النصب في سفرهما في طلب العلم . حتى ظفر بثلاث مسائل . وهو من أكرم الخلق على الله وأعلمهم به .

وأمر الله رسوله أن يسأله المزيد منه فقال : وقل رب زدني علما .

وحرم الله صيد الجوارح الجاهلة ، وإنما أباح للأمة صيد الجوارح العالمة .

فهكذا جوارح الإنسان الجاهل لا يجدي عليه صيدها من الأعمال شيئا . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية