مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثانية : علم خفي . ينبت في الأسرار الطاهرة ، من الأبدان الزاكية ، بماء الرياضة الخالصة ، ويظهر في الأنفاس الصادقة ، لأهل الهمة العالية ، في الأحايين الخالية ، والأسماع الصاخية . وهو علم يظهر الغائب ، ويغيب الشاهد ، ويشير إلى الجمع .

يعني : أن هذا العلم خفي على أهل الدرجة الأولى ، وهو المسمى بالمعرفة عند هذه الطائفة .

قوله : ينبت في الأسرار الطاهرة .

لفظ السر يطلق في لسانهم ويراد به أمور .

أحدها : اللطيفة المودعة في هذا القالب ، التي حصل بها الإدراك والمحبة والإرادة والعلم . وذلك هو الروح .

الثاني : معنى قائم بالروح . نسبته إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن . وغالبا ما يريدون به : هذا المعنى .

[ ص: 444 ] وعندهم : أن القلب أشرف ما في البدن ، والروح أشرف من القلب . والسر ألطف من الروح .

وعندهم : للسر سر آخر . لا يطلع عليه غير الحق سبحانه . وصاحبه لا يطلع عليه ، وإن اطلع على سره . فيقولون السر ما لك عليه إشراف ، وسر السر ما لا اطلاع عليه لغير الحق سبحانه .

والمعنى الثالث : يراد به ما يكون مصونا مكتوما بين العبد وبين ربه ، من الأحوال والمقامات . كما قال بعضهم : أسرارنا بكر . لم يفتضها وهم واهم .

ويقول قائلهم : لو عرف زري سري لطرحته .

والمقصود قوله : ينبت في الأسرار الطاهرة .

يعني : الطاهرة من كدر الدنيا والاشتغال بها ، وعلائقها التي تعوق الأرواح عن ديار الأفراح . فإن هذه أكدار ، وتنفسات في وجه مرآة القلب والروح . فلا تنجلي فيها صور الحقائق كما ينبغي . والنفس تنفس فيها دائما بالرغبة في الدنيا والرهبة من فوتها . فإذا جليت المرآة بإذهاب هذه الأكدار صفت . وظهرت فيها الحقائق والمعارف .

وأما الأبدان الزكية .

فهي التي زكت بطاعة الله ، ونبتت على أكل الحلال . فمتى خلصت الأبدان من الحرام ، وأدناس البشرية ، التي ينهى عنها العقل والدين والمروءة ، وطهرت الأنفس من علائق الدنيا : زكت أرض القلب . فقبلت بذر العلوم والمعارف . فإن سقيت - بعد ذلك - بماء الرياضة الشرعية النبوية المحمدية - وهي التي لا تخرج عن علم ، ولا تبعد عن واجب ولا تعطل سنة - أنبتت من كل زوج كريم ، من علم وحكمة وفائدة وتعرف . فاجتنى منها صاحبها ومن جالسه أنواع الطرف والفوائد ، والثمار المختلفة الألوان والأذواق ، كما قال بعض السلف : إذا عقدت القلوب على ترك المعاصي : جالت في الملكوت . ثم رجعت إلى أصحابها بأنواع التحف والفوائد .

قوله : وتظهر في الأنفاس الصادقة يريد بالأنفاس أمرين .

أحدهما : أنفاس الذكر والمعرفة .

والثاني : أنفاس المحبة والإرادة . وما يتعلق بالمعروف المذكور . وبالمحبوب المراد من الذاكر والمحب . وصدقها خلوصها من شوائب الأغيار والحظوظ .

وقوله : لأهل الهمم العالية فهي التي لا تقف دون الله عز وجل . ولا تعرج في سفرها على شيء سواه . وأعلى الهمم : ما تعلق بالعلي الأعلى . وأوسعها : ما تعلق بصلاح [ ص: 445 ] العباد . وهي همم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، وورثتهم .

وقوله : في الأحايين الخالية .

يريد بها : ساعات الصفاء مع الله تعالى ، وأوقات النفحات الإلهية ، التي من تعرض لها يوشك أن لا يحرمها . ومن أعرض عنها فهي عنه أشد إعراضا .

وقوله : في الأسماع الصاخية

فهي التي صحت من تعلقها بالباطل واللغو ، وأصاخت لدعوة الحق ، ومنادي الإيمان . فإن الباطل واللغو خمر الأسماع والعقول . فصحوها بتجنبه والإصغاء إلى دعوة الحق .

قوله : وهو علم يظهر الغائب أي يكشف ما كان غائبا عن العارف .

قوله : ويغيب الشاهد أي يغيبه عن شهود ما سوى مشهوده الحق .

ويشير إلى الجمع وهو مقام الفردانية ، واضمحلال الرسوم ، حتى رسم الشاهد نفسه . والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية