مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
وسر الخلق والأمر ، والكتب والشرائع ، والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين ، وعليهما مدار العبودية والتوحيد ، حتى قيل : أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب ، جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن ، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن ، وجمع معاني القرآن في المفصل ، وجمع معاني المفصل في الفاتحة ، ومعاني الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين .

وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين ، فنصفهما له تعالى ، وهو " إياك نعبد " ونصفهما لعبده وهو " إياك نستعين " .

وسيأتي سر هذا ومعناه إن شاء الله في موضعه .

والعبادة تجمع أصلين : غاية الحب بغاية الذل والخضوع ، والعرب تقول : طريق معبد أي مذلل ، والتعبد : التذلل والخضوع ، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له ، لم [ ص: 96 ] تكن عابدا له ، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدا له حتى تكون محبا خاضعا ، ومن هاهنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية ، والمنكرون لكونه محبوبا لهم ، بل هو غاية مطلوبهم ، ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم منكرين لكونه إلها ، وإن أقروا بكونه ربا للعالمين وخالقا لهم ، فهذا غاية توحيدهم ، وهو توحيد الربوبية الذي اعترف به مشركو العرب ، ولم يخرجوا به عن الشرك ، كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله وقال تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ، قل لمن الأرض ومن فيها إلى قوله سيقولون لله قل فأنى تسحرون ولهذا يحتج عليهم به على توحيد إلهيته ، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره ، كما أنه لا خالق غيره ، ولا رب سواه .

والاستعانة تجمع أصلين : الثقة بالله ، والاعتماد عليه ، فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ، ولا يعتمد عليه في أموره مع ثقته به لاستغنائه عنه ، وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به لحاجته إليه ، ولعدم من يقوم مقامه ، فيحتاج إلى اعتماده عليه ، مع أنه غير واثق به .

والتوكل معنى يلتئم من أصلين : من الثقة ، والاعتماد ، وهو حقيقة " إياك نعبد وإياك نستعين " وهذان الأصلان وهما التوكل ، والعبادة قد ذكرا في القرآن في عدة مواضع ، قرن بينهما فيها ، هذا أحدها .

الثاني : قول شعيب وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .

الثالث : قوله تعالى ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه .

الرابع : قوله تعالى حكاية عن المؤمنين ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير .

الخامس : قوله تعالى واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا [ ص: 97 ] .

السادس : قوله تعالى قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب .

فهذه ستة مواضع يجمع فيها بين الأصلين ، وهما " إياك نعبد وإياك نستعين " .

وتقديم " العبادة " على " الاستعانة " في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل ، إذ " العبادة " غاية العباد التي خلقوا لها ، و " الاستعانة " وسيلة إليها ، ولأن " إياك نعبد " متعلق بألوهيته واسمه " الله " " وإياك نستعين " متعلق بربوبيته واسمه " الرب " فقدم " إياك نعبد " على " إياك نستعين " كما قدم اسم " الله " على " الرب " في أول السورة ، ولأن " إياك نعبد " قسم " الرب " ، فكان من الشطر الأول ، الذي هو ثناء على الله تعالى ، لكونه أولى به ، و " إياك نستعين " قسم العبد ، فكان من الشطر الذي له ، وهو " اهدنا الصراط المستقيم " إلى آخر السورة .

ولأن " العبادة " المطلقة تتضمن " الاستعانة " من غير عكس ، فكل عابد لله عبودية تامة مستعين به ولا ينعكس ، لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته ، فكانت العبادة أكمل وأتم ، ولهذا كانت قسم الرب .

ولأن " الاستعانة " جزء من " العبادة " من غير عكس ، ولأن " الاستعانة " طلب منه ، و " العبادة " طلب له .

ولأن " العبادة " لا تكون إلا من مخلص ، و " الاستعانة " تكون من مخلص ومن غير مخلص .

ولأن " العبادة " حقه الذي أوجبه عليك ، و " الاستعانة " طلب العون على " العبادة " ، وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك ، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته .

ولأن " العبادة " شكر نعمته عليك ، والله يحب أن يشكر ، والإعانة فعله بك وتوفيقه لك ، فإذا التزمت عبوديته ، ودخلت تحت رقها أعانك عليها ، فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة ، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم .

[ ص: 98 ] والعبودية محفوفة بإعانتين : إعانة قبلها على التزامها والقيام بها ، وإعانة بعدها على عبودية أخرى ، وهكذا أبدا ، حتى يقضي العبد نحبه .

ولأن " إياك نعبد " له ، و " إياك نستعين " به ، وما له مقدم على ما به ، لأن ما له متعلق بمحبته ورضاه ، وما به متعلق بمشيئته ، وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته ، فإن الكون كله متعلق بمشيئته ، والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار ، والطاعات والمعاصي ، والمتعلق بمحبته : طاعتهم وإيمانهم ، فالكفار أهل مشيئته ، والمؤمنون أهل محبته ، ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا ، وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته .

فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم " إياك نعبد " على " إياك نستعين " .

وأما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين ، ففيه : أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم ، وفيه الاهتمام وشدة العناية به ، وفيه الإيذان بالاختصاص ، المسمى بالحصر ، فهو في قوة : لا نعبد إلا إياك ، ولا نستعين إلا بك ، والحاكم في ذلك ذوق العربية والفقه فيها ، واستقراء موارد استعمال ذلك مقدما ، وسيبويه نص على الاهتمام ، ولم ينف غيره .

ولأنه يقبح من القائل أن يعتق عشرة أعبد مثلا ، ثم يقول لأحدهم : إياك أعتقت ، ومن سمعه أنكر ذلك عليه وقال : وغيره أيضا أعتقت ، ولولا فهم الاختصاص لما قبح هذا الكلام ، ولا حسن إنكاره .

وتأمل قوله تعالى وإياي فارهبون ، وإياي فاتقون كيف تجده في قوة : لا ترهبوا غيري ، ولا تتقوا سواي ، وكذلك " إياك نعبد وإياك نستعين " هو في قوة : لا نعبد غيرك ، ولا نستعين بسواك ، وكل ذي ذوق سليم يفهم هذا الاختصاص من علة السياق .

ولا عبرة بجدل من قل فهمه ، وفتح عليه باب الشك والتشكيك ، فهؤلاء هم آفة [ ص: 99 ] العلوم ، وبلية الأذهان والفهوم ، مع أن في ضمير " إياك " من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل ، ففي : إياك قصدت وأحببت من الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدي ، ما ليس في قولك : قصدتك وأحببتك ، وإياك أعني فيه معنى : نفسك وذاتك وحقيقتك أعني .

ومن هاهنا قال من قال من النحاة : إن " إيا " اسم ظاهر مضاف إلى الضمير المتصل ، ولم يرد عليه برد شاف .

ولولا أنا في شأن وراء هذا لأشبعنا الكلام في هذه المسألة ، وذكرنا مذاهب النحاة فيها ، ونصرنا الراجح ، ولعلنا أن نعطف على ذلك بعون الله .

وفي إعادة " إياك " مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين ، ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه ، فإذا قلت لملك مثلا : إياك أحب ، وإياك أخاف ، كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والاهتمام بذكره ، ما ليس في قولك : إياك أحب وأخاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية