مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قال : وهي على ثلاث درجات . الدرجة الأولى : أن تعطي كل شيء حقه ولا تعديه حده ، ولا تعجله عن وقته ، ولا تؤخره عنه .

[ ص: 449 ] لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق ، تقتضيها شرعا وقدرا . ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها . ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر - كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث . بأن تعطى كل مرتبة حقها الذي أحقه الله بشرعه وقدره . ولا تتعدى بها حدها . فتكون متعديا مخالفا للحكمة . ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة . ولا تؤخرها عنه فتفوتها .

وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعا وقدرا . فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض .

وتعدي الحق : كسقيها فوق حاجتها ، بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد .

وتعجيلها عن وقتها : كحصاده قبل إدراكه وكماله .

وكذلك ترك الغذاء والشراب واللباس : إخلال بالحكمة ، وتعدي الحد المحتاج إليه ، خروج عنها أيضا . وتعجيل ذلك قبل وقته : إخلال بها . وتأخيره عن وقته : إخلال بها .

فالحكمة إذا : فعل ما ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي .

والله تعالى أورث الحكمة آدم وبنيه . فالرجل الكامل : من له إرث كامل من أبيه ، ونصف الرجل - كالمرأة - له نصف ميراث ، والتفاوت في ذلك لا يحصيه إلا الله تعالى .

وأكمل الخلق في هذا : الرسل صلوات الله وسلامه عليهم . وأكملهم أولو العزم . وأكملهم محمد صلى الله عليه وسلم . ولهذا امتن الله سبحانه وتعالى عليه ، وعلى أمته بما آتاهم من الحكمة . كما قال تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم . وقال تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .

فكل نظام الوجود مرتبط بهذه الصفة . وكل خلل في الوجود ، وفي العبد فسببه : الإخلال بها . فأكمل الناس : أوفرهم نصيبا . وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال : أقلهم منها ميراثا .

ولها ثلاثة أركان : العلم ، والحلم ، والأناة .

وآفاتها وأضدادها : الجهل ، والطيش ، والعجلة .

[ ص: 450 ] فلا حكمة لجاهل ، ولا طائش ، ولا عجول ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية