مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة الفراسة

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفراسة .

قال الله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال مجاهد رحمه الله : المتفرسين . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : للناظرين . وقال قتادة : للمعتبرين . وقال مقاتل : للمتفكرين .

ولا تنافي بين هذه الأقوال ، فإن الناظر متى نظر في آثار ديار المكذبين ومنازلهم ، وما آل إليه أمرهم : أورثه فراسة وعبرة وفكرة . وقال تعالى في حق المنافقين : ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول . فالأول : فراسة النظر والعين . والثاني : فراسة الأذن والسمع .

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول : علق معرفته إياهم بالنظر على المشيئة ، ولم يعلق تعريفهم بلحن خطابهم على شرط . بل أخبر به خبرا مؤكدا بالقسم . فقال : ولتعرفنهم في لحن القول وهو تعريض الخطاب ، وفحوى الكلام ومغزاه .

واللحن ضربان : صواب وخطأ . فلحن الصواب نوعان . أحدهما : الفطنة . ومنه [ ص: 453 ] الحديث ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض .

والثاني : التعريض والإشارة . وهو قريب من الكناية . ومنه قول الشاعر :


وحديث ألذه وهو مما يشتهي السامعون يوزن وزنا     منطق صائب . وتلحن أحيا
نا وخير الحديث ما كان لحنا

والثالث : فساد المنطق في الإعراب . وحقيقته : تغيير الكلام عن وجهه : إما إلى خطأ ، وإما إلى معنى خفي لم يوضع له اللفظ .

والمقصود : أنه سبحانه أقسم على معرفتهم من لحن خطابهم . فإن معرفة المتكلم وما في ضميره من كلامه : أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه . فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهر من السيماء المرئية . والفراسة تتعلق بالنوعين بالنظر والسماع . وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا فراسة المؤمن . فإنه ينظر بنور الله . ثم تلا قوله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية