مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

الفراسة الثالثة : الفراسة الخلقية . وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم . واستدلوا بالخلق على الخلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله . كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل . وبكبره ، وبسعة الصدر ، وبعد ما بين جانبيه : على سعة خلق صاحبه . واحتماله وبسطته . وبضيقه على ضيقه ، وبخمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها ، وضعف حرارة قلبه . وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة - وهو الشكل - على شجاعته وإقدامه وفطنته . وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته ومكره وخداعه .

ومعظم تعلق الفراسة بالعين . فإنها مرآة القلب وعنوان ما فيه . ثم باللسان . فإنه رسوله وترجمانه . وبالاستدلال بزرقتها مع شقرة صاحبها على رداءته . وبالوحشة التي ترى عليها على سوء داخله وفساد طويته .

وكالاستدلال بإفراط الشعر في السبوطة على البلادة . وبإفراطه في الجعودة على الشر . وباعتداله على اعتدال صاحبه .

وأصل هذه الفراسة : أن اعتدال الخلقة والصورة : هو من اعتدال المزاج والروح . وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال . وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن [ ص: 457 ] الاعتدال : يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال .

هذا إذا خليت النفس وطبيعتها .

ولكن صاحب الصورة والخلقة المعتدلة يكتسب بالمقارنة والمعاشرة أخلاق من يقارنه ويعاشره . ولو أنه من الحيوان البهيم . فيصير من أخبث الناس أخلاقا وأفعالا ، وتعود له تلك طباعا ، ويتعذر - أو يتعسر - عليه الانتقال عنها .

وكذلك صاحب الخلقة والصورة المنحرفة عن الاعتدال يكتسب بصحبة الكاملين بخلطتهم أخلاقا وأفعالا شريفة . تصير له كالطبيعة . فإن العوائد والمزاولات تعطي الملكات والأخلاق .

فليتأمل هذا الموضع ولا يعجل بالقضاء بالفراسة دونه . فإن القاضي حينئذ يكون خطؤه كثيرا . فإن هذه العلامات أسباب لا موجبة . وقد تتخلف عنها أحكامها لفوات شرط ، أو لوجود مانع .

وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء : بعينه . وأذنه . وقلبه . فعينه للسيماء والعلامات . وأذنه : للكلام وتصريحه وتعريضه ، ومنطوقه ، ومفهومه ، وفحواه وإشارته . ولحنه وإيمانه ونحو ذلك . وقلبه للعبور : والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه . فيعبر إلى ما وراء ظاهره ، كعبور النقاد من ظاهر النقش والسكة إلى باطن النقد والاطلاع عليه : هل هو صحيح ، أو زغل ؟ وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة والدل ، إلى باطن الروح والقلب ، فنسبة نقده للأرواح من الأشباح كنسبة نقد الصيرفي ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد .

وكذلك نقد أهل الحديث . فإنه يمر إسناد ظاهر كالشمس على متن مكذوب . فيخرجه ناقدهم ، كما يخرج الصيرفي الزغل من تحت الظاهر من الفضة .

وكذلك فراسة التمييز بين الصادق والكاذب في أقواله وأفعاله وأحواله .

وللفراسة سببان . أحدهما : جودة ذهن المتفرس ، وحدة قلبه ، وحسن فطنته .

والثاني : ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه . فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطئ للعبد فراسة . وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة . وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر . كانت فراسته بين بين .

وكان إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسة . وله الوقائع المشهورة . وكذلك [ ص: 458 ] الشافعي رحمه الله . وقيل : إن له فيها تآليف .

ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أمورا عجيبة . وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم . ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما .

أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة ، وأن جيوش المسلمين تكسر ، وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام ، وأن كلب الجيش وحدته في الأموال . وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة .

ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام : أن الدائرة والهزيمة عليهم . وأن الظفر والنصر للمسلمين . وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا . فيقال له : قل إن شاء الله . فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا . وسمعته يقول ذلك . قال : فلما أكثروا علي . قلت : لا تكثروا . كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ . أنهم مهزومون في هذه الكرة . وأن النصر لجيوش الإسلام . قال : وأطمعت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو .

وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر .

ولما طلب إلى الديار المصرية ، وأريد قتله - بعدما أنضجت له القدور ، وقلبت له الأمور - اجتمع أصحابه لوداعه . وقالوا : قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك . فقال : والله لا يصلون إلى ذلك أبدا . قالوا : أفتحبس ؟ قال : نعم ، ويطول حبسي . ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رءوس الناس . سمعته يقول ذلك .

ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك . وقالوا : الآن بلغ مراده منك . فسجد لله شكرا وأطال . فقيل له : ما سبب هذه السجدة ؟ فقال : هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن ، وقرب زوال أمره . فقيل : متى هذا ؟ فقال : لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته . فوقع الأمر مثل ما أخبر به . سمعت ذلك منه .

وقال مرة : يدخل علي أصحابي وغيرهم . فأرى في وجوههم وأعينهم أمورا لا أذكرها لهم .

فقلت له - أو غيري - لو أخبرتهم ؟ فقال : أتريدون أن أكون معرفا كمعرف الولاة ؟

[ ص: 459 ] وقلت له يوما : لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح . فقال : لا تصبرون معي على ذلك جمعة ، أو قال : شهرا .

وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه ، ولم ينطق به لساني .

وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل . ولم يعين أوقاتها . وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها .

وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية