مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال الدرجة الثانية : تعظيم الحكم : أن يبغى له عوج ، أو يدافع بعلم . أو يرضى بعوض .

الدرجة الأولى : تتضمن تعظيم الحكم الديني الشرعي . وهذه الدرجة تتضمن تعظيم الحكم الكوني القدري . وهو الذي يخصه المصنف باسم الحكم وكما يجب على العبد أن يرعى حكم الله الديني بالتعظيم . فكذلك يرعى حكمه الكوني به . فذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء .

أحدها أن لا يبغى له عوج أي يطلب له عوج ، أو يرى فيه عوج . بل يراه كله مستقيما . لأنه صادر عن عين الحكمة . فلا عوج فيه . وهذا موضع أشكل على الناس جدا .

فقال نفاة القدر : ما في خلق الرحمن من تفاوت ولا عوج . والكفر والمعاصي مشتملة على أعظم التفاوت والعوج . فليست بخلقه لا مشيئته ولا قدره .

وقالت فرقة تقابلهم : بل هي من خلق الرحمن وقدره . فلا عوج فيها . وكل ما في الوجود مستقيم .

والطائفتان ضالتان ، منحرفتان عن الهدى . وهذه الثانية أشد انحرافا . لأنها جعلت الكفر والمعاصي طريقا مستقيما لا عوج فيه . وعدم تفريق الطائفتين بين القضاء والمقضي ، والحكم والمحكوم به : هو الذي أوقعهم فيما أوقعهم فيه .

وقول سلف الأمة وجمهورها : إن القضاء غير المقضي . فالقضاء فعله ومشيئته وما قام به . والمقضي مفعوله المباين له المنفصل عنه . وهو المشتمل على الخير والشر ، والعوج والاستقامة .

[ ص: 468 ] فقضاؤه كله حق . والمقضي : منه حق ، ومنه باطل . وقضاؤه كله عدل . والمقضي : منه عدل ، ومنه جور ، وقضاؤه كله مرضي . والمقضي : منه مرضي ، ومنه مسخوط . وقضاؤه كله مسالم . والمقضي : منه ما يسالم ، ومنه ما يحارب .

وهذا أصل عظيم تجب مراعاته . وهو موضع مزلة أقدام كما رأيت والمنحرف عنه : إما جاهل للحكمة ، أو القدرة ، أو للأمر والشرع ولا بد . وعلى هذا يحمل كلام صاحب " المنازل " رحمه الله أن لا يبتغى للحكم عوج .

وأما قوله : أو يدفع بعلم

فأشكل من الأول . فإن العلم مقدم على القدر . وحاكم عليه . ولا يجوز دفع العلم بالحكم .

فأحسن ما يحمل عليه كلامه ، أن يقال : قضاء الله وقدره وحكمه الكوني ، لا يناقض دينه وشرعه وحكمه الديني . بحيث تقع المدافعة بينهما . لأن هذا مشيئته الكونية . وهذا إرادته الدينية . وإن كان المرادان قد يتدافعان ويتعارضان . لكن من تعظيم كل منهما : أن لا يدافع بالآخر ولا يعارض . فإنهما وصفان للرب تعالى . وأوصافه لا يدافع بعضها ببعض ، وإن استعيذ ببعضها من بعض . فالكل منه سبحانه . وهو المعيذ من نفسه بنفسه ، كما قال أعلم الخلق به : أعوذ برضاك من سخطك . وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك . وأعوذ بك منك فرضاه - وإن أعاذ من سخطه - فإنه لا يبطله ولا يدفعه . وإنما يدفع تعلقه بالمستعيذ . وتعلقه بأعدائه باق غير زائل . فهكذا أمره وقدره سواء . فإن أمره لا يبطل قدره ، ولا قدره يبطل أمره . ولكن يدفع ما قضاه وقدره بما أمر به وأحبه . وهو أيضا من قضائه . فما دفع قضاؤه إلا بقضائه وأمره . فلم يدفع العلم الحكم بل المحكوم به . والعلم والحكم دفعا المحكوم به الذي قدر دفعه وأمر به .

فتأمل هذا . فإنه محض العبودية والمعرفة ، والإيمان بالقدر ، والاستسلام له ، والقيام بالأمر ، والتنفيذ له بالقدر ، فما نفذ المطيع أمر الله إلا بقدر الله . ولا دفع مقدور الله بقدر الله وأمره .

وأما قوله : ولا يرضى بعوض

أي أن صاحب مشهد الحكم قد وصل إلى حد لا يطلب معه عوضا . ولا يكون ممن يعبد الله بالعوض . فإنه يشاهد جريان حكم الله عليه ، وعدم تصرفه في نفسه ، وأن [ ص: 469 ] المتصرف فيه حقا هو مالكه الحق . فهو الذي يقيمه ويقعده ، ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال ، وإنما يطلب العوض من غاب عن الحكم وذهل عنه . وذلك مناف لتعظيمه . فمن تعظيمه : أن لا يرضى العبد بعوض يطلبه بعمله . لأن مشاهدة الحكم وتعظيمه يمنعه أن يرى لنفسه ما يعاوض عليه . فهذا الذي يمكن حمل كلامه عليه من غير خروج عن حقيقة الأمر . والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية