مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة السكينة

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة السكينة

هذه المنزلة من منازل المواهب . لا من منازل المكاسب . وقد ذكر الله سبحانه السكينة في كتابه في ستة مواضع .

الأول : قوله تعالى : وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم .

الثاني : قوله تعالى : ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين .

الثالث : قوله تعالى : إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها .

الرابع : قوله تعالى : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما .

[ ص: 471 ] الخامس : قوله تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا .

السادس : قوله تعالى : إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين . الآية .

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذا اشتدت عليه الأمور : قرأ آيات السكينة .

وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه ، تعجز العقول عن حملها - من محاربة أرواح شيطانية ، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة - قال : فلما اشتد علي الأمر ، قلت لأقاربي ومن حولي : اقرءوا آيات السكينة ، قال : ثم أقلع عني ذلك الحال ، وجلست وما بي قلبة .

وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه . فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه وطمأنينته .

وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار ، والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده ، عند اضطرابه من شدة المخاوف . فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه . ويوجب له زيادة الإيمان ، وقوة اليقين والثبات .

ولهذا أخبر سبحانه عن إنزالها على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب . كيوم الهجرة ، إذ هو وصاحبه في الغار والعدو فوق رءوسهم . لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما . وكيوم حنين ، حين ولوا مدبرين من شدة بأس الكفار ، لا يلوي أحد منهم على أحد . وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار عليهم ، ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحملها النفوس . وحسبك بضعف عمر رضي الله عنه عن حملها - وهو عمر - حتى ثبته الله بالصديق رضي الله عنه .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة ، إلا التي في سورة البقرة .

وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنهما : قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينقل [ ص: 472 ] من تراب الخندق ، حتى وارى التراب جلدة بطنه . وهو يرتجز بكلمة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه :


اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا     فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا     إن الأولى قد بغوا علينا
وإن أرادوا فتنة أبينا

وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة إني باعث نبيا أميا ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا متزين بالفحش ، ولا قوال للخنا . أسدده لكل جميل . وأهب له كل خلق كريم . ثم أجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، والتقوى ضميره . والحكمة معقوله ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والمعروف خلقه ، والعدل سيرته . والحق شريعته ، والهدى إمامه ، والإسلام ملته ، وأحمد اسمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية