مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة الطمأنينة

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الطمأنينة

قال الله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب . وقال الله تعالى : ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي .

الطمأنينة سكون القلب إلى الشيء . وعدم اضطرابه وقلقه . ومنه الأثر المعروف الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع . ويجد عنده سكونا إليه . والكذب يوجب له اضطرابا وارتيابا . ومنه قوله : صلى الله عليه وسلم : البر ما اطمأن إليه [ ص: 480 ] القلب أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه .

وفي ذكر الله هاهنا قولان .

أحدهما : أنه ذكر العبد ربه . فإنه يطمئن إليه قلبه ويسكن . فإذا اضطرب القلب وقلق فليس له ما يطمئن به سوى ذكر الله .

ثم اختلف أصحاب هذا القول فيه .

فمنهم من قال : هذا في الحلف واليمين . إذا حلف المؤمن على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه واطمأنت ، ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما .

ومنهم من قال : بل هو ذكر العبد ربه بينه وبينه ، يسكن إليه قلبه ويطمئن .

والقول الثاني : أن ذكر الله هاهنا القرآن . وهو ذكره الذي أنزله على رسوله . به طمأنينة قلوب المؤمنين . فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين . ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن . فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه . واضطرابه وقلقه من شكه . والقرآن هو المحصل لليقين ، الدافع للشكوك والظنون والأوهام ، فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به . وهذا القول هو المختار .

وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين .

والصحيح : أن ذكره الذي أنزله على رسوله - وهو كتابه - من أعرض عنه : قيض له شيطانا يضله ويصده عن السبيل . وهو يحسب أنه على هدى .

وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى .

والصحيح : أنه ذكره الذي أنزله على رسوله - وهو كتابه - ولهذا يقول المعرض عنه : رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى .

وأما تأويل من تأوله على الحلف : ففي غاية البعد عن المقصود . فإن ذكر الله [ ص: 481 ] بالحلف يجري على لسان الصادق والكاذب ، والبر والفاجر ، والمؤمنون تطمئن قلوبهم إلى الصادق ولو لم يحلف . ولا تطمئن قلوبهم إلى من يرتابون فيه ولو حلف .

وجعل الله سبحانه الطمأنينة في قلوب المؤمنين ونفوسهم ، وجعل الغبطة والمدحة والبشارة بدخول الجنة لأهل الطمأنينة . فطوبى لهم وحسن مآب .

وفي قوله تعالى : ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك دليل على أنها لا ترجع إليه إلا إذا كانت مطمئنة . فهناك ترجع إليه . وتدخل في عباده . وتدخل جنته . وكان من دعاء بعض السلف اللهم هب لي نفسا مطمئنة إليك .

التالي السابق


الخدمات العلمية