مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

والشوق أثر من آثار المحبة ، وحكم من أحكامها . فإنه سفر القلب إلى المحبوب في كل حال .

وقيل : هو اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب .

وقيل : هو احتراق الأحشاء . ومنها يتهيج ويتولد ، ويلهب القلوب ويقطع الأكباد .

والمحبة أعلى منه . لأن الشوق عنها يتولد ، وعلى قدرها يقوى ويضعف .

قال يحيى بن معاذ : علامة الشوق فطام الجوارح عن الشهوات .

وقال أبو عثمان : علامته حب الموت مع الراحة والعافية ، كحال يوسف لما ألقي في الجب لم يقل توفني ، ولما أدخل السجن لم يقل توفني ، ولما تم له الأمر والأمن والنعمة ، قال : " توفني مسلما " .

قال ابن خفيف : الشوق ارتياح القلوب بالوجد ، ومحبة اللقاء بالقرب .

وقيل : هو لهب ينشأ بين أثناء الحشا ، يسنح عن الفرقة . فإذا وقع اللقاء طفئ .

[ ص: 54 ] قلت : هذه مسألة نزاع بين المحبين . وهي : أن الشوق هل يزول باللقاء أم لا ؟

ولا يختلفون أن المحبة لا تزول باللقاء .

فمنهم من قال : يزول باللقاء . لأن الشوق هو سفر القلب إلى محبوبه . فإذا قدم عليه ، ووصل إليه ، صار مكان الشوق قرة عينه به . وهذه القرة تجامع المحبة ولا تنافيها .

قال هؤلاء : وإذا كان الغالب على القلب مشاهدة المحبوب ، لم يطرقه الشوق .

وقيل لبعضهم : هل تشتاق إليه ؟ فقال : لا . إنما الشوق إلى غائب ، وهو حاضر .

وقالت طائفة : بل يزيد الشوق بالقرب والوصول ، ولا يزول . لأنه كان قبل الوصول على الخبر والعلم ، وبعده : قد صار على العيان والشهود . ولهذا قيل :


وأبرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الخيام من الخيام

.

قال الجنيد : سمعت السري يقول : الشوق أجل مقام للعارف إذا تحقق فيه . وإذا تحقق في الشوق لها عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه ، وعلى هذا : فأهل الجنة دائما في شوق إلى الله ، مع قربهم منه ، ورؤيتهم له .

قالوا : ومن الدليل على أن الشوق يكون حال اللقاء أعظم : أنا نرى المحب يبكي عند لقاء محبوبه . وذلك البكاء إنما هو من شدة شوقه إليه ، ووجده به ، ولذلك يجد عند لقائه نوعا من الشوق لم يجده في حال غيبته عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية