مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : وجد يخطف العبد من يد الكونين . ويمحص معناه من درن الحظ ، ويسلبه من رق الماء والطين ، إن سلبه أنساه اسمه . وإن لم يسلبه أعاره رسمه .

[ ص: 74 ] فقوله " يخطف العبد من يد الكونين " أي يغنيه عن شهود ما سوى الله من كوني الدنيا والآخرة . فيختطف القلب من شهود هذا وهذا بشهود المكون .

قوله " ويمحص معناه من درن الحظ " أي يخلص عبوديته التي هي حقيقته وسره من وسخ حظوظ نفسه وإراداتها المزاحمة لمراد ربه منه . فإن تحقيق العبودية - التي هي معنى العبد - لا يكون إلا بفقد النفس الحاملة للحظوظ . فمتى فقدت حظوظها تمحصت عبوديتها . وكلما مات منها حظ حيي منها عبودية ومعنى . وكلما حيي فيها حظ ماتت عبودية ، حتى يعود الأمر على نفسين وروحين وقلبين : قلب حي ، وروح حية بموت نفسه وحظوظها ، وقلب ميت ، وروح ميتة بحياة نفسه وحظوظه . وبين ذلك مراتب متفاوتة في الصحة والمرض ، وبين بين ، لا يحصيها إلا الله عز وجل .

قوله " ويسلبه من رق الماء والطين " أي يعتقه ويحرره من رق الطبيعة والجسم المركب من الماء والطين ، إلى رق رب العالمين ، فخادم الجسم الشقي بخدمته عبد الماء والطين ، كما قيل :


يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

والناس في هذا المقام ثلاثة : عبد محض . وحر محض ، ومكاتب قد أدى بعض كتابته . وهو يسعى في بقية الأداء .

فالعبد المحض : عبد الماء والطين الذي قد استعبدته نفسه وشهوته ، وملكته وقهرته . فانقاد لها انقياد العبد إلى سيده الحاكم عليه .

والحر المحض : هو الذي قهر شهوته ونفسه وملكها . فانقادت معه ، وذلت له ودخلت تحت رقه وحكمه .

والمكاتب : من قد عقد له سبب الحرية . وهو يسعى في كمالها . فهو عبد من وجه حر من وجه . وبالبقية التي بقيت عليه من الأداء يكون عبدا ما بقي عليه درهم . فهو عبد ما بقي عليه حظ من حظوظ نفسه .

فالحر من تخلص من رق الماء والطين . وفاز بعبودية رب العالمين ، فاجتمعت له العبودية والحرية . فعبوديته من كمال حريته ، وحريته من كمال عبوديته .

قوله : إن سلبه أنساه اسمه ، وإن لم يسلبه أعاره رسمه ، أي هذا الوجد إن سلب [ ص: 75 ] صاحبه بالكلية : فأفناه عنه ، وأخذه منه : أنساه اسمه . لأن الاسم تبع للحقيقة . فإذا سلب الحقيقة نسي اسمها ، وإن لم يسلبه بالكلية ، بل أبقى منه رسما ، فهو معار عنده بصدد الاسترجاع . فإن العواري يوشك أن تسترد . ويشير بالأول : إلى حالة الفناء الكامل . وبالثاني : إلى حالة الغيبة التي يؤوب منها غائبها . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية