مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 79 ] فصل في منزلة الهيمان

وقد يعرض للسالك عند ورود بعض المعاني والواردات العجيبة على قلبه : فرط تعجب ، واستحسان واستلذاذ ، يزيل عنه تماسكه ، فيورثه ذلك الهيمان .

وليس ذلك من مقامات السير ، ولا منازل الطريق المقصودة بالنزول فيها للمسافرين . خلافا لصاحب المنازل . حيث عد ذلك من أعلى المنازل وغاياتها ، وعبر عنه بمنزلة الهيمان ولهذا ليس له ذكر في القرآن ، ولا في السنة ، ولا في لسان سلف القوم .

وقد تكلف له صاحب المنازل الاستشهاد بقوله تعالى وخر موسى صعقا وما أبعد الآية من استشهاده . وكأنه ظن أن موسى ذهب عن تماسكه ، لما ورد عليه في حالة الخطاب والتكليم الإلهي فأورثه ذلك هيمانا صعق منه ، وليس كما ظنه . وإنما صعق موسى عند تجلي الرب تعالى للجبل واضمحلاله ، وتدكدكه من تجلي الرب تعالى .

فالاستشهاد بالآية في منزلة الفناء التي تضمحل فيها الرسوم : أنسب وأظهر . لأن تدكدك الجبل : هو اضمحلال رسمه عند ورود نور التجلي عليه . والصعق فناء في هذه الحال لهذا الوارد المفني لبشرية موسى عليه الصلاة والسلام .

وقد حده بأنه الذهاب عن التماسك تعجبا أو حيرة .

يعني : أن الهائم لا يقدر على إمساك نفسه للوارد تعجبا منه وحيرة .

قال : وهو أثبت دواما ، وأملك للنعت من الدهش .

يعني : أن الهائم قد يستمر هيمانه مدة طويلة . بخلاف المدهوش . وصاحب الهيمان يملك عنان القول . فيصرفه كيف يشاء . ويتمكن من التعبير عنه . وأما الدهش : فلضيق معناه ، وقصر زمانه : لم يملك النعت . فالهائم أملك بنعت حاله ووارده من المدهوش .

التالي السابق


الخدمات العلمية