مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قال : وهو ثلاث درجات . الأولى : برق يلمع من جانب العدة في عين الرجاء . فيستكثر فيه العبد القليل من العطاء ، ويستقل فيه الكثير من الإعياء ، ويستحلي فيه مرارة القضاء .

[ ص: 83 ] يعني بالعدة : ما وعد الله أولياءه من أنواع الكرامة في هذه الدار وعند اللقاء .

وقوله " يلمع في عين الرجاء " أي يبدو في حقيقة الرجاء من أفقه وناحيته ، فيوجب له ذلك استكثار القليل - ولا قليل من الله - من عطائه ، والحامل له على هذا الاستكثار : أربعة أمور .

أحدها : نظره إلى جلالة معطيه وعظمته .

الثاني : احتقاره لنفسه . فإن ازدراءه لها : يوجب استكثار ما يناله من سيده .

الثالث : محبته له . فإن المحبة إذا تمكنت من العبد استكثر قليل ما يناله من محبوبه .

الرابع : أن هذا - قبل العطاء - لم يكن له إلف به ، ولا اتصال بالعطية . فلما فاجأته : استكثرها .

وأما استقلاله الكثير من الإعياء - وهو التعب والنصب - فلأنه لما بدا له برق الوعود من أفق الرجاء : حمله ذلك على الجد والطلب . وحمل عنه مشقة السير . فلم يجد لذلك من مس الإعياء والنصب ما يجده من لم يشم ذلك .

وكذلك استحلاؤه - في هذا البرق - مرارة القضاء وهو البلاء الذي يختبر به الله عز وجل عباده ، ليبلوهم أيهم أصبر وأصدق ، وأعظم إيمانا ، ومحبة وتوكلا وإنابة ؟ فإذا لاح للسالك هذا البرق : استحلى فيه مرارة القضاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية