مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : ملاحظة عين الجمع . وهي توقظ لاستهانة المجاهدات . وتخلص من رعونة المعارضات . وتفيد مطالعة البدايات .

هذه الدرجة عنده : أرفع مما قبلها . فإن ما قبلها - مطالعة كشف الأنوار - تشير إلى نوع كسب واختيار . وهذه مطالعة تجذب القلب من التفرق في أودية الإرادات ، وشعاب الأحوال والمقامات ، إلى ما استولى عليه من عين الجمع ، الناظر إلى الواحد الفرد الأول الذي ليس قبله شيء ، الآخر الذي ليس بعده شيء ، الظاهر الذي ليس فوقه شيء ، الباطن الذي ليس دونه شيء . سبق كل شيء بأوليته . وبقي بعد كل شيء بآخريته . وعلا فوق كل شيء بظهوره . وأحاط بكل شيء ببطونه .

فالنظر بهذه العين : يوقظ قلبه لاستهانته بالمجاهدات .

ومعنى ذلك : أن السالك في مبدأ أمره له شرة ، وفي طلبه حدة ، تحمله على أنواع المجاهدات ، وترميه عليها لشدة طلبه . ففتوره نائم ، واجتهاده يقظان .

فإذا وصل إلى هذه الدرجة : استهان بالمجاهدات الشاقة في جنب ما حصل له [ ص: 112 ] من مقام الجمع على الله . واستراح من كدها . فإن ساعة من ساعات الجمع على الله : أنفع وأجدى عليه من القيام بكثير من المجاهدات البدنية ، التي لم يفرضها الله عليه . فإذا جمع همه وقلبه كله على الله ، وزال كل مفرق ومشتت : كانت هذه هي ساعات عمره في الحقيقة . فتعوض بها عما كان يقاسيه من كد المجاهدات وتعبها .

وهذا موضع غلط فيه طائفتان من الناس .

إحداهما : غلت فيه ، حتى قدمته على الفرائض والسنن . ورأت نزولها عنه إلى القيام بالأوامر انحطاطا من الأعلى إلى الأدنى . حتى قيل لبعض من زعم أنه ذاق ذلك : قم إلى الصلاة ، فقال :


يطالب بالأوراد من كان غافلا فكيف بقلب كل أوقاته ورد

وقال آخر : لا تسيب واردك لوردك .

وهؤلاء بين كافر وناقص .

فمن لم ير القيام بالفرائض - إذا حصلت له الجمعية - فهو كافر ، منسلخ من الدين . ومن عطل لها مصلحة راجحة - كالسنن الرواتب ، والعلم النافع ، والجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والنفع العظيم المتعدي - فهو ناقص .

والطائفة الثانية : لا تعبأ بالجمعية ، ولا تعمل عليها . ولعلها لا تدري ما مسماها ولا حقيقتها .

وطريقة الأقوياء ، أهل الاستقامة : القيام بالجمعية في التفرقة ما أمكن . فيقوم أحدهم بالعبادات ، ونفع الخلق ، والإحسان إليهم ، مع جمعيته على الله . فإن ضعف عن اجتماع الأمرين ، وضاق عن ذلك : قام بالفرائض . ونزل عن الجمعية . ولم يلتفت إليها ، إذا كان لا يقدر على تحصيلها إلا بتعطيل الفرض . فإن ربه سبحانه يريد منه أداء فرائضه . ونفسه تريد الجمعية ، لما فيها من الراحة واللذة ، والتخلص من ألم التفرقة وشعثها . فالفرائض حق ربه . والجمعية حظه هو .

فالعبودية الصحيحة : توجب عليه تقديم أحد الأمرين على الآخر . فإذا جاء إلى النوافل ، وتعارض عنده الأمران : فمنهم من يرجح الجمعية .

ومنهم من يرجح النوافل . ومنهم من يؤثر هذا في وقت وهذا في وقت .

والتحقيق - إن شاء الله - أن تلك النوافل إن كانت مصلحتها أرجح من الجمعية ، [ ص: 113 ] ولا تعوضه الجمعية عنها : اشتغل بها ، ولو فاتت الجمعية ، كالدعوة إلى الله ، وتعليم العلم النافع ، وقيام وسط الليل ، والذكر أول الليل وآخره ، وقراءة القرآن بالتدبر . ونفل الجهاد ، والإحسان إلى المضطر ، وإغاثة الملهوف . ونحو ذلك . فهذا كله مصلحته أرجح من مصلحة الجمعية .

وإن كانت مصلحته دون الجمعية - كصلاة الضحى ، وزيارة الإخوان ، والغسل لحضور الجنائز ، وعيادة المرضى ، وإجابة الدعوات ، وزيارة القدس ، وضيافة الإخوان ونحو ذلك - فهذا فيه تفصيل .

فإن قويت جمعيته فظهر تأثيرها فيه : فهي أولى له ، وأنفع من ذلك . وإن ضعفت الجمعية ، وقوي إخلاصه في هذه الأعمال : فهي أنفع له ، وأفضل من الجمعية .

والمعول عليه في ذلك كله : إيثار أحب الأمرين إلى الرب تعالى .

وذلك يعرف بنفع العمل وثمرته ، من زيادة الإيمان به ، وترتب الغايات الحميدة عليه ، وكثرة مواظبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليه ، وشدة اعتنائه به ، وكثرة الوصية به ، وإخباره : أن الله يحب فاعله . ويباهي به الملائكة . ونحو ذلك .

ونكتة المسألة وحرفها : أن الصادق في طلبه يؤثر مرضاة ربه على حظه . فإن كان رضا الله في القيام بذلك العمل ، وحظه في الجمعية : خلى الجمعية تذهب . وقام بما فيه رضا الله .

ومتى علم الله من قلبه : أن تردده وتوقفه - ليعلم : أي الأمرين أحب إلى الله وأرضى له - أنشأ له من ذلك التوقف والتردد حالة شريفة فاضلة ، حتى لو قدم المفضول - لظنه أنه الأحب إلى الله - : ردت تلك النية والإرادة عليه ما ذهب عليه وفاته من زيادة العمل الآخر . وبالله التوفيق .

وفي كلامه معنى آخر : وهو أن صاحب المجاهدات مسافر بعزمه وهمته إلى الله . فإذا لاحظ عين الجمع ، وهي الوحدانية - التي شهود عينها : هو انكشاف حقيقتها للقلب - كان بمنزلة مسافر جاد في سيره ، وقد وصل إلى المنزل . وقرت عينه بالوصول . وسكنت نفسه ، كما قيل :


فألقت عصاها واستقر بها النوى     كما قر عينا بالإياب المسافر

ولكن هذا الموضع : مورد الصديق الموحد . والزنديق الملحد .

فالزنديق يقول : الاشتغال بالسير بعد الوصول عيب . لا فائدة فيه . والوصول عنده : هو ملاحظة عين الجمع . فإذا استغرق في هذا الشهود ، وفني به عن كل [ ص: 114 ] ما سواه : ظن أن ذلك هو الغاية المطلوبة بالأوراد والعبادات . وقد حصلت له الغاية . فرأى قيامه بها أولى به . وأنفع له من الاشتغال بالوسيلة . فالعبادات البدنية عنده : وسيلة لغاية ، وقد حصلت . فلا معنى للاشتغال بالوسيلة بعدها ، كما يقول كثير من الناس : إن العلم وسيلة إلى العمل . فإذا اشتغلت بالغاية لم تحتج إلى الوسيلة .

وقد اشتد نكير السلف - من أهل الاستقامة من الشيوخ - على هذه الفرقة . وحذروا منهم . وجعلوا أهل الكبائر وأصحاب الشهوات خيرا منهم ، وأرجى عاقبة .

وأما الصديق الموحد : فإذا وصل إلى هناك ، صارت أعماله القلبية والروحية أعظم من أعماله البدنية ، ولم يسقط من أعماله شيئا . ولكنه استراح من كد المجاهدات بملاحظة عين الجمع .

وصار بمنزلة مسافر طلب ملكا عظيما رحيما جوادا ، فجد في السفر إليه ، خشية أن يقتطع دونه . فلما وصل إليه ووقع بصره عليه : بقي له سير آخر في مرضاته ومحابه . فالأول : كان سيرا إليه . وهذا سير في محابه ومراضيه . فهذا أقرب ما يقال في كلام الشيخ وأمثاله في ذلك .

وبعد ، فالعبد - وإن لاحظ عين الجمع ، ولم يغب عنها - فهو سائر إلى الله ولا ينقطع سيره إليه ما دام في قيد الحياة . ولا يصل العبد ما دام حيا إلى الله وصولا يستغني به عن السير إليه ألبتة ، وهذا عين المحال .

بل يشتد سيره إلى الله كلما زادت ملاحظته لتوحيده ، وأسمائه وصفاته . ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم الخلق اجتهادا ، وقياما بالأعمال ، ومحافظة عليها إلى أن توفاه الله . وهو أعظم ما كان اجتهادا وقياما بوظائف العبودية . فلو أتى العبد بأعمال الثقلين جميعها لم تفارقه حقيقة السير إلى الله . وكان بعد في طريق الطلب والإرادة .

وتقسيم السائرين إلى الله : إلى طالب ، وسائر ، وواصل . أو إلى مريد ، ومراد : تقسيم فيه مساهلة لا تقسيم حقيقي ، فإن الطلب والسلوك والإرادة لو فارق العبد : لانقطع عن الله بالكلية .

ولكن هذا التقسيم باعتبار تنقل العبد في أحوال سيره وإلا فإرادة العبد المراد ، وطلبه وسيره : أشد من إرادة غيره ، وطلبه وسيره .

وأيضا فإنه مراد أولا ، حيث أقيم في مقام الطلب ، وجذب إلى السير . فكل مريد مراد . وكل واصل وسالك وطالب لا يفارقه طلبه ولا سيره ، وإن تنوعت طرق السير ، بحسب اختلاف حال العبد .

[ ص: 115 ] فمن السالكين : من يكون سيره ببدنه وجوارحه أغلب عليه من سيره بقلبه وروحه .

ومنهم : من سيره بقلبه أغلب عليه ، أعني قوة سيره وحدته .

ومنهم - وهم الكمل الأقوياء - من يعطي كل مرتبة حقها . فيسير إلى الله ببدنه وجوارحه ، وقلبه وروحه .

وقد أخبر الله سبحانه عن صفوة أوليائه بأنهم دائما في مقام الإرادة له . فقال تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وقال تعالى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى فالعبد أخص أوصافه ، وأعلى مقاماته : أن يكون مريدا صادق الإرادة ، عبدا في إرادته . بحيث يكون مراده تبعا لمراد ربه الديني منه . ليس له إرادة في سواه .

وقد يحمل كلام الشيخ على معنى آخر ، وهو : أن يكون معنى قوله " إن ملاحظة عين الجمع توقظ الاستهانة بالمجاهدات " أنه يوقظه من نوم الاستهانة بالمجاهدات ، وتكون اللام للتعليل . أي يوقظه من سنة التقصير . لاستهانته بالمجاهدات . وهذا معنى صحيح في نفسه فإن العبد كلما كان إلى الله أقرب كان جهاده في الله أعظم . قال الله تعالى وجاهدوا في الله حق جهاده .

وتأمل أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب في مقام : عظم جهادهم واجتهادهم : لا كما ظنه بعض الملاحدة المنتسبين إلى الطريق ، حيث قال : القرب الحقيقي تنقل العبد من الأحوال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة . ويريح الجسد والجوارح من كد العمل .

وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا . حيث عطلوا العبودية . وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة ، التي هي من أماني النفس ، وخدع الشيطان . وكأن قائلهم إنما عنى نفسه ، وذوي مذهبه بقوله :


رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم     وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم     وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا

[ ص: 116 ] .

وقد صرح أهل الاستقامة ، وأئمة الطريق : بكفر هؤلاء . فأخرجوهم من الإسلام . وقالوا : لو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال ذرة . أي ما دام قادرا عليه .

وهؤلاء يظنون : أنهم يستغنون بهذه الحقيقة عن ظاهر الشريعة .

وأجمعت هذه الطائفة على أن هذا كفر وإلحاد . وصرحوا بأن كل حقيقة لا تتبعها شريعة فهي كفر .

قال سري السقطي : من ادعى باطن الحقيقة ينقضها ظاهر حكم : فهو غالط . وقال سيد الطائفة الجنيد بن محمد : علمنا هذا متشبك بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال إبراهيم بن محمد النصرابادي : أصل هذا المذهب : ملازمة الكتاب والسنة ، وترك الأهواء والبدع . والتمسك بالأئمة ، والاقتداء بالسلف ، وترك ما أحدثه الآخرون ، والمقام على ما سلك الأولون . .

وسئل إسماعيل بن نجيد : ما الذي لا بد للعبد منه ؟ فقال : ملازمة العبودية على السنة ، ودوام المراقبة . وسئل : ما التصوف ؟ فقال : الصبر تحت الأمر والنهي . .

وقال أحمد بن أبي الحواري : من عمل بلا اتباع سنة فباطل عمله . وقال الشبلي يوما - ومد يده إلى ثوبه - لولا أنه عارية لمزقته . فقيل له : رؤيتك في تلك الغلبة ثيابك ، وأنها عارية ؟ فقال : نعم أرباب الحقائق محفوظ عليهم في كل الأوقات الشريعة . .

وقال أبو يزيد البسطامي : لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به ، حتى تنظروا : كيف تجدونه عند الأمر والنهي ، وحفظ الحدود والشريعة .

وقال عبد الله الخياط : الناس قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا مع ما يقع في قلوبهم . فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فردهم من القلب إلى الدين والشريعة .

ولما حضرت أبا عثمان الحيري الوفاة : مزق ابنه أبو بكر قميصه . ففتح أبو عثمان عينيه ، وقال : يا بني خلاف السنة في الظاهر من رياء الباطن في القلب .

ومن كلام ابن عثمان هذا : أسلم الطرق من الاغترار : طريق السلف ، ولزوم الشريعة . .

وقال عبد الله بن مبارك : لا يظهر على أحد شيء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ، ومجانبة البدعة . وكل [ ص: 117 ] موضع ترى فيه اجتهادا ظاهرا بلا نور . فاعلم أن ثم بدعة خفية . وقال سهل بن عبد الله : الزم السواد على البياض - حدثنا وأخبرنا - إن أردت أن تفلح .

ولقد كان سادات الطائفة أشد ما كانوا اجتهادا في آخر أعمارهم .

قال القشيري : سمعت أبا علي الدقاق يقول : رئي في يد الجنيد سبحة . فقيل له : أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة ؟ فقال : طريق وصلت به إلى ربي تبارك وتعالى لا أفارقه أبدا . .

وقال إسماعيل بن نجيد : كان الجنيد يجيء كل يوم إلى السوق ، فيفتح باب حانوته . فيدخله ويسبل الستر ، ويصلي أربعمائة ركعة ثم يرجع إلى بيته . ودخل عليه ابن عطاء - وهو في النزع - فسلم عليه . فلم يرد عليه . ثم رد عليه بعد ساعة . فقال : اعذرني . فإني كنت في وردي . ثم حول وجهه إلى القبلة . وكبر ، ومات .

وقال أبو سعيد بن الأعرابي : سمعت أبا بكر العطار يقول : حضرت أبا القاسم الجنيد - أنا وجماعة من أصحابنا - فكان قاعدا يصلي ، ويثني رجله إذا أراد أن يسجد . فلم يزل كذلك حتى خرجت الروح من رجليه . فثقلت عليه حركتها ، وكانتا قد تورمتا .

فقال له بعض أصحابه : ما هذا يا أبا القاسم ؟ فقال : هذه نعم الله . الله أكبر . فلما فرغ من صلاته ، قال له أبو محمد الجريري : يا أبا القاسم ، لو اضطجعت . فقال : يا أبا محمد ، هذا وقت يؤخذ فيه ؟ الله أكبر . فلم يزل ذلك حاله حتى مات .

ودخل عليه شاب - وهو في مرضه الذي مات فيه . وقد تورم وجهه . وبين يديه مخدة يصلي إليها - فقال : وفي هذه الساعة لا تترك الصلاة ؟ فلما سلم دعاه ، وقال : شيء وصلت به إلى الله ، فلا أدعه . ومات بعد ساعة . رحمة الله عليه .

وقال أبو محمد الجريري : كنت واقفا على رأس الجنيد في وقت وفاته . وكان يوم جمعة ، ويوم نيروز . وهو يقرأ القرآن . فقلت له : يا أبا القاسم ، ارفق بنفسك ، فقال : يا أبا محمد ، أرأيت أحدا أحوج إليه مني ، في مثل هذا الوقت ، وهو ذا تطوى صحيفتي ؟ .

وقال أبو بكر العطوي : كنت عند الجنيد حين مات . فختم القرآن . ثم ابتدأ في ختمة أخرى . فقرأ من البقرة سبعين آية . ثم مات .

وقال محمد بن إبراهيم : رأيت الجنيد في النوم . فقلت : ما فعل الله بك ؟ فقال : طاحت تلك الإشارات ، وغابت تلك العبارات ، وفنيت تلك العلوم ، ونفدت تلك الرسوم . وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار .

وتذاكروا بين يديه أهل [ ص: 118 ] المعرفة ، وما استهانوا به من الأوراد والعبادات بعدما وصلوا إليه ؟ فقال الجنيد : العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رءوس الملوك . وقال : الطرق كلها مسدودة على الخلق ، إلا من اقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - . واتبع سنته ، ولزم طريقته . فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه . وقال : من ظن أنه يصل ببذل المجهود فمتعن . ومن ظن أنه يصل بغير بذل المجهود فمتمن .

وقال أبو نعيم : سمعت أبي يقول : سمعت أحمد بن جعفر بن هانئ يقول : سألت الجنيد ، ما علامة الإيمان ؟ فقال : علامته طاعة من آمنت به ، والعمل بما يحبه ويرضاه ، وترك التشاغل عنه بما ينقضي ويزول .

فرحمة الله على أبي القاسم الجنيد ورضي الله عنه . ما أتبعه لسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وما أقفاه لطريقة أصحابه .

وهذا باب يطول تتبعه جدا . يدلك على أن أهل الاستقامة في نهاياتهم : أشد اجتهادا منهم في بداياتهم ، بل كان اجتهادهم في البداية في عمل مخصوص . فصار اجتهادهم في النهاية : الطاعة المطلقة . وصارت إرادتهم دائرة معها . فتضعف الاجتهاد في المعنى المعين . لأنه كان مقسوما بينه وبين غيره .

ولا تضع إلى قول ملحد قاطع للطريق في قالب عارف ، يقول : إن منزلة القرب تنقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة . وتحمل على الاستهانة بالطاعات الظاهرة ، وتريحه من كد القيام بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية