مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل [ ص: 121 ] قوله : " وتفيد مطالعة البدايات " يحتمل كلامه أمرين .

أحدهما : أن ملاحظة عين الجمع : تفيد صاحبها مطالعة السوابق التي ابتدأه الله بها . فتفيده ملاحظة عين الجمع نظرة إلى أولية الرب تعالى في كل شيء .

ويحتمل أن يريد بالبدايات : بدايات سلوكه ، وحدة طلبه . فإنه في حال سلوكه لا يلتفت إلى ما وراءه ، لشدة شغله بما بين يديه . وغلبة أحكام الهمة عليه . فلا يتفرغ لمطالعة بداياته . فإذا لاحظ عين الجمع : قطع السلوك الأول . وبقي له سلوك ثان . فتفرغ حينئذ إلى مطالعة بداياته . ووجد اشتياقا منه إليها ، كما قال الجنيد : واشوقاه إلى أوقات البداية .

يعني : لذة أوقات البداية ، وجمع الهمة على الطلب ، والسير إلى الله . فإنه كان مجموع الهمة على السير والطلب . فلما لاحظ عين الجمع فنيت رسومه ، وهو لا يمكنه الفناء عن بشريته ، وأحكام طبيعته . فتقاضت طباعه ما فيها . فلزمته الكلف . فارتاح إلى أوقات البدايات ، لما كان فيها من لذة الإعراض عن الخلق ، واجتماع الهمة .

ومر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على رجل ، وهو يبكي من خشية الله . فقال : هكذا كنا حتى قست قلوبنا .

وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إن لكل عامل شرة . ولكل شرة فترة .

فالطالب الجاد : لا بد أن تعرض له فترة . فيشتاق في تلك الفترة إلى حاله وقت الطلب والاجتهاد .

ولما فتر الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغدو إلى شواهق الجبال ليلقي نفسه . فيبدو له جبريل عليه السلام ، فيقول له : إنك رسول الله . فيسكن لذلك جأشه ، وتطمئن نفسه .

[ ص: 122 ] فتخلل الفترات للسالكين : أمر لازم لا بد منه . فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ، ولم تخرجه من فرض ، ولم تدخله في محرم : رجا له أن يعود خيرا مما كان .

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه : إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا . فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل . وإن أدبرت فألزموها الفرائض .

وفي هذه الفترات والغيوم والحجب ، التي تعرض للسالكين : من الحكم ما لا يعلم تفصيله إلا الله . وبها يتبين الصادق من الكاذب .

فالكاذب : ينقلب على عقبيه . ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه .

والصادق : ينتظر الفرج . ولا ييأس من روح الله . ويلقي نفسه بالباب طريحا ذليلا مسكينا مستكينا ، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه ألبتة ، ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له ، لا بسبب من العبد - وإن كان هذا الافتقار من أعظم الأسباب - لكن ليس هو منك . بل هو الذي من عليك به . وجردك منك . وأخلاك عنك . وهو الذي يحول بين المرء وقلبه .

فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام ، فاعلم أنه يريد أن يرحمك ويملأ إناءك ، فإن وضعت القلب في غير هذا الموضع فاعلم أنه قلب مضيع . فسل ربه ومن هو بين أصابعه : أن يرده عليك ويجمع شملك به . ولقد أحسن القائل :


إذا ما وضعت القلب في غير موضع بغير إناء فهو قلب مضيع



التالي السابق


الخدمات العلمية