مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : وهم على ثلاث طبقات الطبقة الأولى : طائفة علت هممهم ، وصفت [ ص: 163 ] قصودهم . وصح سلوكهم . ولن يوقف لهم على رسم . ولم ينسبوا إلى اسم . ولم يشر إليهم بالأصابع . أولئك ذخائر الله حيث كانوا .

ذكر لهم ثلاث صفات ثبوتية ، وثلاثا سلبية .

الأولى : علو هممهم . وعلو الهمة : أن لا تقف دون الله ، ولا تتعوض عنه بشيء سواه . ولا ترضى بغيره بدلا منه . ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به ، والفرح والسرور والابتهاج له ، بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية . فالهمة العالية على الهمم : كالطائر العالي على الطيور . لا يرضى بمساقطهم ، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم ، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها .

وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان ، فإن الآفات قواطع وجواذب ، وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه ، وإنما تجتذب من المكان السافل ، فعلو همة المرء : عنوان فلاحه ، وسفول همته : عنوان حرمانه .

العلامة الثانية : صفاء القصد ، وهو خلاصه من الشوائب التي تعوقه عن مقصوده ، فصفاء القصد : تجريده لطلب المقصود له لا لغيره ، فهاتان آفتان في القصد ؛ إحداهما : أن لا يتجرد لمطلوبه . الثانية : أن يطلبه لغيره لا لذاته .

وصفاء القصد : يراد به العزم الجازم على اقتحام بحر الفناء عند الشيخ ومن وافقه على أن الفناء غاية .

ويراد به : خلوص القصد من كل إرادة تزاحم مراد الرب تعالى ، بل يصير القصد مجردا لمراده الديني الأمري ، وهذه طريقة من يجعل الغاية : هي الفناء عن إرادة السوى ، وعلامته : اندراج حظ العبد في حق الرب تعالى ، بحيث يصير حظه هو نفس حق ربه عليه ، ولا يخفى على البصير الصادق علو هذه المنزلة ، وفضلها على منزلة الفناء ، وبالله التوفيق .

العلامة الثالثة صحة السلوك وهو سلامته من الآفات والعوائق والقواطع ، وهو إنما يصح بثلاثة أشياء :

أحدها : أن يكون على الدرب الأعظم ، الدرب النبوي المحمدي ، لا على الجواد الوضعية ، والرسوم الاصطلاحية ، وإن زخرفوا لها القول ودققوا لها الإشارة ، [ ص: 164 ] وحسنوا لها العبارة ، فتلك من بقايا النفوس عليهم وهم لا يشعرون .

الثاني : أن لا يجيب على الطريق داعي البطالة والوقوف والدعة .

الثالث : أن يكون في سلوكه ناظرا إلى المقصود . وقد تقدم بيان ذلك .

فبهذه الثلاثة يصح السلوك ، والعبارة الجامعة لها : أن يكون واحدا لواحد ، في طريق واحد ، فلا ينقسم طلبه ولا مطلوبه ، ولا يتلون مطلوبه .

وأما الثلاثة السلبية التي ذكرها . فأولها : قوله : ولم يوقف لهم على رسم .

يريد : أنهم انمحت رسومهم ، فلم يبق منها ما يقف عليه واقف .

وهذا كلام يحتاج إلى شرح ، فإن الرسم الظاهر المعاين لا يمحى ما دام في هذا العالم ، ولا يرون محو هذا الرسم وهم مختلفون فيما يعبر بالرسم عنه .

فطائفة قالت : الرسم ما سوى الحق سبحانه ، ومحوه هو ذهاب الوقوف معه والنظر إليه والرضا به والتعلق به .

ومنهم : من يريد بالرسم : الظواهر والعلامات .

وهذا أقرب إلى وضع اللغة ، فإن رسم الدار هو الأثر الباقي منها الذي يدل عليها ، ولهذا يسمون الفقهاء وأهل الأثر ونحوهم علماء الرسوم ؛ لأنهم عندهم لم يصلوا إلى الحقائق ، اشتغلوا عن معرفتها بالظواهر والأدلة .

فهذه الطائفة التي أشار إليها لا رسم لهم يقفون عنده ، بل اشتغلوا بالحقائق والمعاني عن الرسوم والظواهر .

وللملحد هاهنا مجال ؛ إذ عنده أن العبادات والأوامر والأوراد كلها رسوم ، وأن العباد وقفوا على الرسوم ، ووقفوا هم على الحقائق .

ولعمر الله إنها لرسوم إلهية أتت على أيدي رسله ، ورسم لهم أن لا يتعدوها ، ولا يقصروا عنها ، فالرسل قعدوا على هذه الرسوم يدعون الخلق إليها ، ويمنعونهم من تجاوزها ، ليصلوا إلى حقائقها ومقاصدها ، فعطل الملاحدة تلك الرسوم ، وقالوا إنما المراد الحقائق ، ففاتتهم الرسوم والحقائق معا . ووصلوا ؛ ولكن إلى الحقائق الإلحادية الكفرية وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون . وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون .

[ ص: 165 ] فأحسن ما حمل عليه قول الشيخ " ولم يقفوا مع رسم " : أنهم لم ينقطعوا بشيء سوى الله عنه ، فكل ما قطع عن الله لم يقفوا معه ، وما أوصلهم إلى الله لم يفارقوه ، وكان وقوفهم معه .

وقد يريد بقوله : " لم يوقف لهم على رسم " أنهم لعلو هممهم سبقوا الناس في السير ، فلم يقفوا معهم ، فهم المفردون السابقون ، فلسبقهم لم يوقف لهم على أثر في الطريق ، ولم يعلم المتأخر عنهم أين سلكوا ؟ والمشمر بعدهم : قد يرى آثار نيرانهم على بعد عظيم ، كما يرى الكوكب ، ويستخبر ممن رآهم : أين رآهم ؟ فحاله كما قيل :


أسائل عنكم كل غاد ورائح وأومي إلى أوطانكم وأسلم

العلامة الثانية : قوله " ولم ينسبوا إلى اسم " أي : لم يشتهروا باسم يعرفون به عند الناس من الأسماء التي صارت أعلاما لأهل الطريق .

وأيضا ، فإنهم لم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه ، فيعرفون به دون غيره من الأعمال . فإن هذا آفة في العبودية . وهي عبودية مقيدة ، وأما العبودية المطلقة : فلا يعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها ، فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها ، فله مع كل أهل عبودية نصيب يضرب معهم بسهم ، فلا يتقيد برسم ولا إشارة ، ولا اسم ولا بزي ، ولا طريق وضعي اصطلاحي ، بل إن سئل عن شيخه ؟ قال : الرسول . وعن طريقه ؟ قال : الاتباع . وعن خرقته ؟ قال : لباس التقوى . وعن مذهبه ؟ قال : تحكيم السنة . وعن مقصوده ومطلبه ؟ قال : يريدون وجهه وعن رباطه وعن خانكاه ؟ قال : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة . وعن نسبه ؟ قال :


أبي الإسلام لا أب لي سواه     إذا افتخروا بقيس أو تميم

وعن مأكله ومشربه ؟ قال : " ما لك ولها ؟ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعى [ ص: 166 ] الشجر حتى تلقى ربها " .


واحسرتاه تقضى العمر وانصرمت     ساعاته بين ذل العجز والكسل
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد     ساروا إلى المطلب الأعلى على مهل

والعلامة الثالثة : قوله : " ولم يشر إليهم بالأصابع " يريد : أنهم لخفائهم عن الناس لم يعرفوا بينهم ، حتى يشيروا إليهم بالأصابع ، وفي الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم : لكل عامل شرة ولكل شرة فترة . فإن صاحبها سدد وقارب فارجوا له . وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه شيئا . فسئل راوي الحديث عن معنى : " أشير إليه بالأصابع " فقال : هو المبتدع في دينه ، الفاجر في دنياه .

وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل ، فإن الناس إنما يشيرون بالأصابع إلى من يأتيهم بشيء ، فبعضهم يعرفه وبعضهم لا يعرفه ، فإذا مر : أشار من يعرفه إلى من لا يعرفه : هذا فلان ، وهذا قد يكون ذما له ، وقد يكون مدحا ، فمن كان معروفا باجتهاد وعبادة وزهد وانقطاع عن الخلق ، ثم انحط عن ذلك ، وعاد إلى حال أهل الدنيا والشهوات : فإذا مر بالناس أشاروا إليه ، وقالوا : هذا كان على طريق كذا وكذا ، ثم فتن وانقلب ، فهذا الذي قال في الحديث عنه : " فلا تعدوه شيئا " لأنه انقلب على عقبيه ، ورجع بعد الشرة إلى أسوأ فترة .

وقد يكون الرجل منهمكا في الدنيا ولذاتها ، ثم يوقظه الله لآخرته ، فيترك ما هو فيه ، ويقبل على شأنه . فإذا مر أشار الناس إليه بالأصابع ، وقالوا : هذا كان مفتونا . ثم تداركه الله . فهذا كانت شرته في المعاصي . ثم صارت في الطاعات . والأول : كانت شرته في الطاعات . ثم فترت وعادت إلى البدعة والفجور .

وبالجملة : فالإشارة بالأصابع إلى الرجل : علامة خير وشر ، ومورد هلاكه ونجاته ، والله سبحانه الموفق .

[ ص: 167 ] قوله " أولئك ذخائر الله حيث كانوا " ذخائر الملك : ما يخبأ عنده ، ويذخره لمهماته ، ولا يبذله لكل أحد ، وكذلك ذخيرة الرجل : ما يذخره لحوائجه ومهماته ، وهؤلاء لما كانوا مستورين عن الناس بأسبابهم ، غير مشار إليهم ولا متميزين برسم دون الناس ، ولا منتسبين إلى اسم طريق أو مذهب أو شيخ أو زي كانوا بمنزلة الذخائر المخبوءة ، وهؤلاء أبعد الخلق عن الآفات ، فإن الآفات كلها تحت الرسوم والتقيد بها ، ولزوم الطرق الاصطلاحية ، والأوضاع المتداولة الحادثة ؛ هذه هي التي قطعت أكثر الخلق عن الله ، وهم لا يشعرون . والعجب أن أهلها : هم المعروفون بالطلب والإرادة ، والسير إلى الله . وهم إلا الواحد بعد الواحد المقطوعون عن الله بتلك الرسوم والقيود .

وقد سئل بعض الأئمة عن السنة ؟ فقال : ما لا اسم له سوى السنة

يعني : أن أهل السنة ليس لهم اسم ينسبون إليه سواها .

فمن الناس : من يتقيد بلباس لا يلبس غيره ، أو بالجلوس في مكان لا يجلس في غيره ، أو مشية لا يمشي غيرها ، أو بزي وهيئة لا يخرج عنهما ، أو عبادة معينة لا يتعبد بغيرها ، وإن كانت أعلى منها ، أو شيخ معين لا يلتفت إلى غيره ، وإن كان أقرب إلى الله ورسوله منه ، فهؤلاء كلهم محجوبون عن الظفر بالمطلوب الأعلى مصدودون عنه ، قد قيدتهم العوائد والرسوم والأوضاع والاصطلاحات عن تجريد المتابعة . فأضحوا عنهما بمعزل ، ومنزلتهم منها أبعد منزل ، فترى أحدهم يتعبد بالرياضة والخلوة ، وتفريغ القلب ، ويعد العلم قاطعا له عن الطريق ، فإذا ذكر له الموالاة في الله والمعاداة فيه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عد ذلك فضولا وشرا ، وإذا رأوا بينهم من يقوم بذلك أخرجوه من بينهم ، وعدوه غيرا عليهم ، فهؤلاء أبعد الناس عن الله ، وإن كانوا أكثر إشارة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية