مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

فاعلم أن سر العبودية ، وغايتها وحكمتها إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب عز وجل ، ولم يعطلها ، وعرف معنى الإلهية وحقيقتها ، ومعنى كونه إلها ، بل هو الإله الحق ، وكل إله سواه فباطل ، بل أبطل الباطل ، وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له ، وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها ، وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات ، وكارتباط المعلوم بالعلم ، والمقدور بالقدرة ، والأصوات بالسمع ، والإحسان بالرحمة ، والعطاء بالجود .

فمن أنكر حقيقة الإلهية ولم يعرفها كيف يستقيم له معرفة حكمة العبادات وغاياتها ومقاصدها وما شرعت لأجله ؟ كيف يستقيم له العلم بأنها هي الغاية المقصودة بالخلق ، والتي لها خلقوا ، ولها أرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب ، ولأجلها خلقت الجنة والنار ؟ وأن فرض تعطيل الخليقة عنها نسبة لله إلى ما لا يليق به ، ويتعالى عنه من خلق السماوات والأرض بالحق ، ولم يخلقهما باطلا ، ولم يخلق الإنسان عبثا ولم يتركه سدى مهملا ، قال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون أي لغير شيء ولا حكمة ، ولا لعبادتي ومجازاتي لكم ، وقد صرح تعالى بهذا في قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فالعبادة هي الغاية التي خلق لها الجن والإنس والخلائق كلها ، قال الله تعالى أيحسب الإنسان أن يترك سدى أي مهملا ، قال الشافعي : لا يؤمر ولا ينهى ، وقال غيره : لا يثاب ولا يعاقب ، والصحيح الأمران ، فإن الثواب والعقاب مترتبان على الأمر والنهي ، والأمر والنهي طلب العبادة وإرادتها ، وحقيقة العبادة امتثالهما ، وقال تعالى ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار [ ص: 119 ] وقال وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وقال وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت .

فأخبر أنه خلق السماوات والأرض بالحق المتضمن أمره ونهيه ، وثوابه وعقابه .

فإذا كانت السماوات والأرض وما بينهما خلقت لهذا ، وهو غاية الخلق ، فكيف يقال إنه لا علة له ، ولا حكمة مقصودة هي غايته ؟ أو إن ذلك لمجرد استئجار العباد حتى لا ينكد عليهم الثواب بالمنة ، أو لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية ، وارتياضها بمخالفة العوائد ؟ .

فليتأمل اللبيب الفرقان بين هذه الأقوال ، وبين ما دل عليه صريح الوحي يجد أن أصحاب هذه الأقوال ما قدروا الله حق قدره ، ولا عرفوه حق معرفته .

فالله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته ، الجامعة لكمال محبته ، مع الخضوع له والانقياد لأمره .

فأصل العبادة : محبة الله ، بل إفراده بالمحبة ، وأن يكون الحب كله لله ، فلا يحب معه سواه ، وإنما يحب لأجله وفيه ، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه ، فمحبتنا لهم من تمام محبته ، وليست محبة معه ، كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه .

وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها ، فهي إنما تتحقق باتباع أمره ، واجتناب نهيه ، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة ، ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها ، وشاهدا لمن ادعاها ، فقال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله ، وشرطا لمحبة الله لهم ، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة ، فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله ، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم ، فيستحيل إذا ثبوت محبتهم لله ، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله .

ودل على أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي حب الله ورسوله ، وطاعة أمره ، ولا يكفي [ ص: 120 ] ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما ، فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله ، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة ، ولا يهديه الله ، قال الله تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين .

فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله ، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله ، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله ، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه ، أو معاملة أحدهم على معاملة الله فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وإن قاله بلسانه فهو كذب منه ، وإخبار بخلاف ما هو عليه ، وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله ، فذلك المقدم عنده أحب إليه من الله ورسوله ، لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد أو حكمه ، أو طاعته أو مرضاته ، ظنا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول ، فيطيعه ، ويحاكم إليه ، ويتلقى أقواله كذلك ، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك ، وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول ، وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقا ، أو في بعض الأمور ، ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به ، فهذا الذي يخاف عليه ، وهو داخل تحت الوعيد ، فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله ، ولم يوافقه على اتباع شيخه ، فهو من الظلمة المعتدين ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية