مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل الغربة

قال شيخ الإسلام : باب الغربة قال الله تعالى : فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم .

استشهاده بهذه الآية في هذا الباب يدل على رسوخه في العلم والمعرفة وفهم القرآن ، فإن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية ، وهم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ، قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن زهير بن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن حنطب ، عن المطلب بن حنطب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : طوبى للغرباء ، قالوا : [ ص: 185 ] يا رسول الله ، ومن الغرباء ؟ قال : الذين يزيدون إذا نقص الناس .

فإن كان هذا الحديث بهذا اللفظ محفوظا لم ينقلب على الراوي لفظه وهو : الذين ينقصون إذا زاد الناس فمعناه : الذين يزيدون خيرا وإيمانا وتقى إذا نقص الناس من ذلك ، والله أعلم .

وفي حديث الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ، قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : النزاع من القبائل .

وفي حديث عبد الله بن عمرو قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده طوبى للغرباء ، قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : ناس صالحون قليل في ناس كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم .

وقال أحمد : حدثنا الهيثم بن جميل ، حدثنا محمد بن مسلم ، حدثنا عثمان بن عبد الله ، عن سليمان بن هرمز ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : إن أحب شيء إلى الله الغرباء ، قيل : ومن الغرباء ؟ قال : الفرارون بدينهم ، يجتمعون إلى عيسى ابن مريم عليه السلام يوم القيامة .

وفي حديث آخر : بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : الذين يحيون سنتي ويعلمونها الناس .

وقال نافع ، عن مالك : دخل عمر بن الخطاب المسجد ، فوجد معاذ بن جبل جالسا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فقال له عمر : ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن ؟ هلك أخوك ؟ قال : لا ، ولكن حديثا حدثنيه حبيبي صلى الله عليه وسلم وأنا في هذا المسجد ، فقال : ما هو ؟ قال : إن الله يحب الأخفياء الأحفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم [ ص: 186 ] يفتقدوا ، وإذا حضروا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة .

فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون ، ولقلتهم في الناس جدا ؛ سموا غرباء ، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات ، فأهل الإسلام في الناس غرباء ، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء ، وأهل العلم في المؤمنين غرباء .

وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء ، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة ، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا ، فلا غربة عليهم ، وإنما غربتهم بين الأكثرين ، الذين قال الله عز وجل فيهم : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ، فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه ، وغربتهم هي الغربة الموحشة ، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم ، كما قيل :


فليس غريبا من تناءت دياره ولكن من تنأين عنه غريب

ولما خرج موسى عليه السلام هاربا من قوم فرعون انتهى إلى مدين على الحال التي ذكر الله ، وهو وحيد غريب خائف جائع ، فقال : يا رب وحيد مريض غريب ، فقيل له : يا موسى الوحيد : من ليس له مثلي أنيس ، والمريض : من ليس له مثلي طبيب ، والغريب : من ليس بيني وبينه معاملة .

التالي السابق


الخدمات العلمية