مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
المرتبة الخامسة : الحياة التي أشار إليها المصنف ، وهي حياة العلم من موت الجهل ، فإن الجهل موت لأصحابه ، كما قيل :


وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور     وأرواحهم في وحشة من جسومهم
فليس لهم حتى النشور نشور

فإن الجاهل ميت القلب والروح ، وإن كان حي البدن فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض ، قال الله تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ، وقال تعالى : إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ، وقال تعالى : : [ ص: 246 ] إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء ، وقال تعالى : إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور وشبههم في موت قلوبهم بأهل القبور ، فإنهم قد ماتت أرواحهم ، وصارت أجسامهم قبورا لها ، فكما أنه لا يسمع أصحاب القبور ، كذلك لا يسمع هؤلاء ، وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة وملزومهما ، فهذه القلوب لما لم تحس بالعلم والإيمان ، ولم تتحرك له : كانت ميتة حقيقة ، وليس هذا تشبيها لموتها بموت البدن ، بل ذلك موت القلب والروح .

وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد من كلام لقمان ، أنه قال لابنه : يا بني جالس العلماء ، وزاحمهم بركبتيك ، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة ، كما يحيي الأرض بوابل القطر ، وقال معاذ بن جبل تعلموا العلم ، فإن تعلمه لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ؛ لأنه معالم الحلال والحرام ، ومنار سبل أهل الجنة ، وهو الأنيس في الوحشة ، والصاحب في الغربة ، والمحدث في الخلوة ، والدليل على السراء والضراء ، والسلاح على الأعداء ، والزين عند الأخلاء ، يرفع الله به أقواما ، فيجعلهم في الخير قادة ، وأئمة تقتص آثارهم ، ويقتدى بأفعالهم ، وينتهى إلى رأيهم ، ترغب الملائكة في خلتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، يستغفر لهم كل رطب ويابس ، وحيتان البحر وهوامه ، وسباع البر وأنعامه ؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل ، ومصابيح الأبصار من الظلم ، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار ، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة ، التفكر فيه يعدل الصيام ، ومدارسته تعدل القيام ، به توصل الأرحام ، وبه يعرف الحلال من الحرام ، وهو إمام العمل ، والعمل تابع له يلهمه السعداء ، ويحرمه الأشقياء . رواه الطبراني وابن عبد البر وغيرهما ، وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والوقف أصح .

[ ص: 247 ] والمقصود : قوله ؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل فالقلب ميت ، وحياته بالعلم والإيمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية