مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

المرتبة العاشرة من مراتب الحياة

الحياة الدائمة الباقية بعد طي هذا العالم ، وذهاب الدنيا وأهلها في دار الحيوان ، وهي الحياة التي شمر إليها المشمرون ، وسابق إليها المتسابقون ، ونافس فيها المتنافسون ، وهي التي أجرينا الكلام إليها ، ونادت الكتب السماوية ورسل الله [ ص: 265 ] جميعهم عليها ، وهي التي يقول من فاته الاستعداد لها إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول ياليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ، وهي التي قال الله عز وجل فيها : وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون .

والحياة المتقدمة كالنوم بالنسبة إليها ، وكل ما تقدم من وصف السير ومنازله ، وأحوال السائرين ، وعبوديتهم الظاهرة والباطنة فوسيلة إلى هذه الحياة ، وإنما الحياة الدنيا بالنسبة إليها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم ترجع ؟ .

وكما قيل : تنفست الآخرة فكانت الدنيا نفسا من أنفاسها ، فأصاب أهل السعادة نفس نعيمها ، فهم على هذا النفس يعملون ، وأصاب أهل الشقاوة نفس عذابها ، فهم على ذلك النفس يعملون .

وإذا كانت حياة أهل الإيمان والعمل الصالح في هذه الدار حياة طيبة ، فما الظن بحياتهم في البرزخ ، وقد تخلصوا من سجن الدنيا وضيقها ؟ فما الظن بحياتهم في دار النعيم المقيم الذي لا يزول ، وهم يرون وجه ربهم تبارك وتعالى بكرة وعشيا ويسمعون خطابه ؟

فإن قلت : ما سبب تخلف النفس عن طلب هذه الحياة التي لا خطر لها ، وما الذي زهدها فيها ؟ وما سبب رغبتها في الحياة الفانية المضمحلة ، التي هي كالخيال والمنام ؟ أفساد في تصورها وشعورها ؟ أم تكذيب بتلك الحياة ؟ أم لآفة في العقل ، وعمى هناك ؟ أم إيثار للحاضر المشهود بالعيان على الغائب المعلوم بالإيمان ؟

قيل : بل ذلك لمجموع أمور مركبة من ذلك كله .

وأقوى الأسباب في ذلك : ضعف الإيمان ، فإن الإيمان هو روح الأعمال ، وهو الباعث عليها ، والآمر بأحسنها ، والناهي عن أقبحها ، وعلى قدر قوة الإيمان يكون أمره ونهيه لصاحبه ، وائتمار صاحبه وانتهاؤه ، قال الله تعالى : قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين .

[ ص: 266 ] وبالجملة : فإذا قوي الإيمان قوي الشوق إلى هذه الحياة ، واشتد طلب صاحبه لها .

السبب الثاني : جثوم الغفلة على القلب ، فإن الغفلة نوم القلب ، ولهذا تجد كثيرا من الأيقاظ في الحس نياما في الواقع ، فتحسبهم أيقاظا وهم رقود ، ضد حال من يكون يقظان القلب وهو نائم ، فإن القلب إذا قويت فيه الحياة لا ينام إذا نام البدن ، وكمال هذه الحياة كان لنبينا صلى الله عليه وسلم ، ولمن أحيا الله قلبه بمحبته واتباع رسالته على بصيرة من ذلك بحسب نصيبه منهما .

فالغفلة واليقظة يكونان في الحس والعقل والقلب ، فمستيقظ القلب وغافله كمستيقظ البدن ونائمه ، وكما أن يقظة الحس على نوعين ، فكذلك يقظة القلب على نوعين .

فالنوع الأول من يقظة الحس : أن صاحبها ينفذ في الأمور الحسية ، ويتوغل فيها بكسبه وفطانته ، واحتياله وحسن تأتيه .

والنوع الثاني : أن يقبل على نفسه وقلبه وذاته ، فيعتني بتحصيل كماله ، فيلحظ عوالي الأمور وسفسافها ، فيؤثر الأعلى على الأدنى ، ويقدم خير الخيرين بتفويت أدناهما ، ويرتكب أخف الشرين خشية حصول أقواهما ، ويتحلى بمكارم الأخلاق ومعالي الشيم ، فيكون ظاهره جميلا ، وباطنه أجمل من ظاهره ، وسريرته خيرا من علانيته ، فيزاحم أصحاب المعالي عليها كما يتزاحم أهل الدينار والدرهم عليهما ، فبهذه اليقظة يستعد للنوعين الآخرين منهما .

أحدهما : يقظة تبعثه على اقتباس الحياة الدائمة الباقية التي لا خطر لها من هذه الحياة الزائلة الفانية ، التي لا قيمة لها .

فإن قلت : مثل لي كيف تقتبس الحياة الدائمة من الحياة الفانية ؟ وكيف يكون هذا ؟ فإني لا أفهمه .

قلت : وهذا أيضا من نوم القلب بل من موته ، وهل تقتبس الحياة الدائمة إلا من هذه الحياة الزائلة ؟ وأنت قد تشعل سراجك من سراج آخر قد أشفى على [ ص: 267 ] الانطفاء ، فيتقد الثاني ويضيء غاية الإضاءة ، ويتصل ضوءه وينطفئ الأول ، والمقتبس لحياته الدائمة من حياته المنقطعة إنما ينتقل من دار منقطعة إلى دار باقية ، وقد توسط الموت بين الدارين ، فهو قنطرة لا يعبر إلى تلك الدار إلا عليها ، وباب لا يدخل إليها إلا منه ، فهما حياتان في دارين بينهما الموت ، وكما أن نور تلك الدار مقتبس من نور هذه الدار ، فحياتها كذلك مقتبسة من حياتها ، فعلى قدر نور الإيمان في هذه الدار يكون نور العبد في تلك الدار ، وعلى قدر حياته في هذه الدار تكون حياته هناك .

نعم ؛ هذا النور والحياة الذي يقتبس منه ذلك النور والحياة لا ينقطع ، بل يضيء للعبد في البرزخ وفي موقف القيامة ، وعلى الصراط ، فلا يفارقه إلى دار الحيوان ، يطفأ نور الشمس وهذا النور لا يطفأ ، وتبطل الحياة المحسوسة وهذه الحياة لا تبطل ، هذا أحد نوعي يقظة القلب .

النوع الثاني : يقظة تبعث على حياة ، لا تدركها العبارة ، ولا ينالها التوهم ، ولا يطابق فيها اللفظ لمعناه ألبتة ، والذي يشار به إليها حياة المحب مع حبيبه الذي لا قوام لقلبه وروحه وحياته إلا به ولا غنى له عنه طرفة عين ، ولا قرة لعينه ، ولا طمأنينة لقلبه ، ولا سكون لروحه إلا به ، فهو أحوج إليه من سمعه وبصره وقوته ، بل ومن حياته ، فإن حياته بدونه عذاب وآلام ، وهموم وأحزان ، فحياته موقوفة على قربه وحبه ومصاحبته ، وعذاب حجابه عنه أعظم من العذاب الآخر ، كما أن نعيم القلب والروح بإزالة ذلك الحجاب أعظم من النعيم بالأكل والشرب ، والتمتع بالحور العين ، فهكذا عذاب الحجاب أعظم من عذاب الجحيم ، ولهذا جمع الله سبحانه لأوليائه بين النعيمين في قوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة فالحسنى الجنة ، والزيادة : رؤية وجهه الكريم في جنات عدن ، وجمع لأعدائه بين العذابين في قوله : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم .

والمقصود : أن الغفلة هي نوم القلب عن طلب هذه الحياة ، وهي حجاب عليه ، فإن كشف هذا الحجاب بالذكر وإلا تكاثف حتى يصير حجاب بطالة ولعب واشتغال بما لا يفيد ، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب معاص وذنوب صغار تبعده عن الله ، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب كبائر توجب مقت [ ص: 268 ] الرب تعالى له وغضبه ولعنته ، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب بدع عملية يعذب العامل فيها نفسه ، ولا تجدي عليه شيئا ، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب بدع قولية اعتقادية ؛ تتضمن الكذب على الله ورسوله ، والتكذيب بالحق الذي جاء به الرسول ، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب شك وتكذيب ؛ يقدح في أصول الإيمان الخمسة ، وهي : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه ، فلغلظ حجابه وكثافته وظلمته وسواده لا يرى حقائق الإيمان ، ويتمكن منه الشيطان ، يعده ويمنيه ، والنفس الأمارة بالسوء تهوى وتشتهي ، وسلطان الطبع قد ظفر بسلطان الإيمان ، فأسره وسجنه إن لم يهلكه ، وتولى تدبير المملكة واستخدام جنود الشهوات ، وأقطعها العوائد التي جرى عليها العمل ، وأغلق باب اليقظة ، وأقام عليه بواب الغفلة ، وقال : إياك أن نؤتى من قبلك ، واتخذ حاجبا من الهوى ، وقال : إياك أن تمكن أحدا يدخل علي إلا معك ، فأمر هذه المملكة قد صار إليك وإلى البواب ، فيا بواب الغفلة ، ويا حاجب الهوى ليلزم كل منكما ثغره ، فإن أخليتما فسد أمر مملكتنا ، وعادت الدولة لغيرنا ، وسامنا سلطان الإيمان شر الخزي والهوان ، ولا نفرح بهذه المدينة أبدا .

فلا إله إلا الله ! إذا اجتمعت على القلب هذه العساكر مع رقة الإيمان وقلة الأعوان ، والإعراض عن ذكر الرحمن ، والانخراط في سلك أبناء الزمان ، وطول الأمل المفسد للإنسان أن آثر العاجل الحاضر على الغائب الموعود به بعد طي هذه الأكوان ، فالله المستعان وعليه التكلان .

فهذا فصل مختصر نافع في ذكر الحياة وأنواعها ، والتشويق إلى أشرفها وأطيبها ، فمن صادف من قلبه حياة انتفع به ، وإلا فخود تزف إلى ضرير مقعد .

فلنرجع إلى شرح كلام صاحب المنازل :

قال : ولها ثلاثة أنفاس : نفس الخوف ، ونفس الرجاء ، ونفس المحبة .

لما كان لكل حيوان متنفسا ، فإن النفس موجب الحياة وعلامتها ، كانت أنفاس الحياة المشار إليها ثلاثة أنفاس : نفس الخوف ؛ ومصدره : مطالعة الوعيد ، وما أعد الله لمن آثر الدنيا على الآخرة ، والمخلوق على الخالق ، والهوى على الهدى ، والغي على الرشاد .

[ ص: 269 ] ونفس الرجاء ؛ ومصدره مطالعة الوعد ، وحسن الظن بالرب تعالى ، وما الله أعد لمن آثر الله ورسوله والدار الآخرة ، وحكم الهدى على الهوى ، والوحي على الآراء ، والسنة على البدعة ، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على عوائد الخلق .

ونفس بالمحبة ؛ مصدره مطالعة الأسماء والصفات ، ومشاهدة النعماء والآلاء .

فإذا ذكر ذنوبه تنفس بالخوف ، وإذا ذكر رحمة ربه وسعة مغفرته وعفوه تنفس بالرجاء ، وإذا ذكر جماله وجلاله وكماله وإحسانه وإنعامه تنفس بالحب .

فليزن العبد إيمانه بهذه الأنفاس الثلاثة ، ليعلم ما معه من الإيمان ، فإن القلوب مفطورة على حب الجمال والإجمال ، والله سبحانه جميل ، بل له الجمال التام الكامل من جميع الوجوه جمال الذات ، وجمال الصفات ، وجمال الأفعال ، وجمال الأسماء وإذا جمع جمال المخلوقات كله على شخص واحد ، ثم كانت جميعها على جمال ذلك الشخص ، ثم نسب هذا الجمال إلى جمال الرب تبارك وتعالى ، كان أقل من نسبة سراج ضعيف إلى عين الشمس .

فالنفس الصادر عن هذه الملاحظة والمطالعة أشرف أنفاس العبد على الإطلاق ، فأين نفس المشتاق المحب الصادق إلى نفس الخائف الراجي ؟ ولكن لا يحصل له هذا النفس إلا بتحصيل ذينك النفسين ، فإن أحدهما ثمرة تركه للمخالفات ، والثاني : ثمرة فعله للطاعات ، فمن هذين النفسين يصل إلى النفس الثالث .

التالي السابق


الخدمات العلمية