مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل الانفصال

قال صاحب المنازل : ( باب الانفصال ) قال الله تعالى : ويحذركم الله نفسه ليس في المقامات شيء فيه من التفاوت ما في الانفصال .

وجه الإشارة بالآية : أنه سبحانه المقرب المبعد ، فليحذر القريب من الإبعاد والمتصل من الانفصال ، فإن الحق جل جلاله غيور لا يرضى ممن عرفه ووجد حلاوة معرفته ، واتصل قلبه بمحبته والأنس به ، وتعلقت روحه بإرادة وجهه الأعلى أن يكون له التفات إلى غيره ألبتة .

ومن غيرته سبحانه : حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والله سبحانه يغار أشد الغيرة على عبده : أن يلتفت إلى سواه ، فإذا أذاقه حلاوة محبته ، ولذة الشوق إليه ، وأنس معرفته ، ثم ساكن غيره باعده من قربه ، وقطعه من وصله ، وأوحش سره ، وشتت قلبه ، ونغص عيشه ، وألبسه رداء الذل والصغار والهوان ، فنادى عليه حاله ، إن لم يصرح به قاله : هذا جزاء من تعوض عن وليه وإلهه وفاطره ، ومن لا حياة له إلا به بغيره وآثر غيره عليه ، فاتخذ سواه له حبيبا ، ورضي بغيره أنيسا ، واتخذ سواه وليا ، قال الله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا .

[ ص: 308 ] فإذا ضرب هذا القلب بسوط البعد والحجاب ، وسلط عليه من يسومه سوء العذاب ، وملئ من الهموم والغموم والأحزان ، وصار محلا للجيف والأقذار والأنتان ، وبدل بالأنس وحشة ، وبالعز ذلا ، وبالقناعة حرصا ، وبالقرب بعدا وطردا ، وبالجمع شتاتا وتفرقة كان هذا بعض جزائه ، فحينئذ تطرقه الطوارق والمؤلمات ، وتعتريه وفود الأحزان والهموم بعد وفود المسرات .

قرأ قارئ بين يدي السري : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا فقال السري : تدرون ما هذا الحجاب ؟ هو حجاب الغيرة ، ولا أحد أغير من الله . فمن عرفه وذاق حلاوة قربه ومحبته ، ثم رجع عنه إلى مساكنة غيره : ثبط جوارحه عن طاعته ، وعقل قلبه عن إرادته ومحبته ، وأخره عن محل قربه ، وولاه ما اختاره لنفسه .

وقال بعضهم : احذره ، فإنه غيور ، لا يحب أن يرى في قلب عبده سواه .

ومن غيرته : أن صفيه آدم لما ساكن بقلبه الجنة ، وحرص على الخلود فيها أخرجه منها ، ومن غيرته سبحانه : أن إبراهيم خليله لما أخذ إسماعيل شعبة من قلبه أمره بذبحه ، حتى يخرج من قلبه ذلك المزاحم .

إنما كان الشرك عنده ذنبا لا يغفر لتعلق قلب المشرك به وبغيره ، فكيف بمن تعلق قلبه كله بغيره ، وأعرض عنه بكليته ؟

إذا أردت أن تعرف ما حل بك من بلاء الانفصال ، وذل الحجاب ، فانظر لمن استعبد قلبك ، واستخدم جوارحك ، وبمن شغل سرك ، وأين يبيت قلبك إذا أخذت مضجعك ؟ وإلى أين يطير إذا استيقظت من منامك ؟ فذلك هو معبودك وإلهك ، فإذا سمعت النداء يوم القيامة : لينطلق كل واحد مع من كان يعبده ، انطلقت معه كائنا من كان .

لا إله إلا الله ! ما أشد غبن من باع أطيب الحياة في هذه الدار المتصلة بالحياة الطيبة هناك ، والنعيم المقيم بالحياة المنغصة المنكدة المتصلة بالعذاب الأليم ، والمدة ساعة من نهار ، أو عشية أو ضحاها ، أو يوم أو بعض يوم ، فيه ربح الأبد أو خسارة الأبد .


فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويذهب هذا كله ويزول

التالي السابق


الخدمات العلمية