مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : وهو على ثلاث درجات ، الدرجة الأولى : فناء المعرفة في المعروف ، وهو الفناء علما ، وفناء العيان في المعاين ، وهو الفناء جحدا ، وفناء الطلب في الوجود ، وهو الفناء حقا .

هذا تفصيل ما أجمله أولا ، ونبين ما أرادوا بالعلم ، والجحد ، والحق .

[ ص: 347 ] ففناء المعرفة في المعروف : هو غيبة العارف بمعروفه عن شعوره بمعرفته ومعانيها فيفنى به سبحانه عن وصفه هنا وما قام به ، فإن المعرفة فعله ووصفه ، فإذا استغرق في شهود المعروف فني عن صفة نفسه وفعلها ، ولما كانت المعرفة فوق العلم وأخص منه كان فناء المعرفة في المعروف مستلزما لفناء العلم في المعرفة ، فيفنى أولا في المعرفة ثم تفنى المعرفة في المعروف .

وأما فناء العيان في المعاين : فالعيان فوق المعرفة ، فإن المعرفة مرتبة فوق العلم ودون العيان ، فإذا انتقل من المعرفة إلى العيان فني عيانه في معاينه ، كما فنيت معرفته في معروفه .

وأما فناء الطلب في الوجود : فهو أن لا يبقى لصاحب هذا الفناء طلب ؛ لأنه ظفر بالمطلوب المشاهد ، وصار واجدا بعد أن كان طالبا ، فكان إدراكه أولا علما ، ثم قوي فصار معرفة ، ثم قوي فصار عيانا ، ثم تمكن فصار معرفة ، ثم تمكن فصار وجودا .

ولعلك أن تستنكر - أو تستبعد - هذه الألفاظ ومعانيها ، فاسمع ضرب مثل يهون عليك ذلك ، ويقربه منك : مثل ملك - عظيم السلطان ، شديد السطوة ، تام الهيبة ، قوي البأس - استدعى رجلا من رعيته قد اشتد جرمه وعصيانه له ، فحضر بين يديه ، وغلب على ظنه إتلافه ، فأحواله في حال حضوره مختلفة بالنسبة إلى ما يشاهده ، فتارة يتذكر جرمه وسطوة السلطان وقدرته عليه ، فيفكر فيما سيلقاه ، وتارة تقهره الحال التي هو فيها ، فلا يذكر ما كان منه ولا ما أحضر من أجله ، لغلبة الخوف على قلبه ويأسه من الخلاص ، ولكن عقله وذهنه معه ، وتارة يغيب قلبه وذهنه بالكلية فلا يشعر أين هو ؟ ولا من إلى جانبه ، ولا بما يراد به ، وربما جرى على لسانه في هذه الحال ما لا يريده ، فهذا فناء الخوف .

ومثال ثان في فناء الحب : محب استغرقت محبته شخصا في غاية الجمال والبهاء ، وأكبر أمنيته الوصول إليه ، ومحادثته ورؤيته ، فبينا هو على حاله قد ملأ الحب قلبه ، وقد استغرق فكره في محبوبه ، وإذا به قد دخل عليه محبوبه بغتة على أحسن هيئة ، فقابله قريبا منه ، وليس دونه سواه ، أفليس هذا حقيقا أن يفنى عن شهوده بمشهوده ، بل وعن حبه بمحبوبه ؟ فيملك عليه المحبوب سمعه وبصره وإرادته وإحساسه ، ويغيب به عن ذاته وصفاته ؟ وانظر إلى النسوة كيف قطعن أيديهن لما طلع عليهن يوسف ، وشاهدن ذلك الجمال ، ولم يتقدم لهن من عشقه ومحبته ما تقدم لامرأة العزيز ، فأفناهن شهود جماله عن حالهن حتى قطعن أيديهن .

[ ص: 348 ] وأما امرأة العزيز : فإنها - وإن كانت صاحبة المحبة - فإنها كانت قد ألفت رؤيته ومشاهدته ، فلما خرج لم يتغير عليها حالها كما تغير على العواذل ، فكان مقامها البقاء ومقامهن الفناء ، وحصل لهن الفناء من وجهين .

أحدهما : ذهولهن عن الشعور بقطع ما في أيديهن حتى تخطاه القطع إلى الأيدي .

الثاني : فناؤهن عن الإحساس بألم القطع ، وهكذا الفناء بالمخوف ، والفرح بالمحبوب يفني صاحبه عن شعوره وعن إحساسه بالكيفيات النفسانية .

هذا في مشاهدة مخلوق محدث له أشباه وأمثال ، وله من يقاربه ويدانيه في الجمال ، وإنما فاق بني جنسه في الحسن والجمال ببعض الصفات ، وامتاز ببعض المعاني المخلوقة المصنوعة ، فما الظن بمن له الجمال كله ، والكمال كله ، والإحسان والإجمال ، ونسبة كل جمال في الوجود إلى جماله وجلاله أقل من نسبة سراج ضعيف إلى عين الشمس ، ولما علم سبحانه أن قوى البشر لا تحتمل - في هذه الدار - رؤيته ؛ احتجب عن عباده إلى يوم القيامة ، فينشئهم نشأة يتمكنون بها من مشاهدة جماله ورؤية وجهه ، وأنت ترى بعض آياته ومخلوقاته ومبدعاته كيف يفنى فيها مشاهدها عن غيرها ؟ ولكن هذا كله في المشاهدات العيانية ، والواردات الوجدانية .

وأما المعارف الإلهية : فإن حالة " البقاء " فيها أكمل من حالة " الفناء " وهي حالة نبينا صلوات الله وسلامه عليه ، وحال الكمل من أتباعه ، ولهذا رأى ما رأى ليلة الإسراء والمعراج وهو ثابت القلب ، رابط الجأش ، حاضر الإدراك ، تام التمييز ، ولو رأى غيره بعض ذلك لما تمالك .

فإن قلت : ربما أفهم معنى فناء المعرفة في المعروف وفناء العيان في المعاين ، فما معنى فناء الطلب في الوجود ، حتى يكون هو الفناء حقا ؟

قلت : متى فهمت الأمرين اللذين قبله فهمت معناه ، فإن الواجد لما ظفر بموجوده فني طلبه له واضمحل ، وهذا مشهود في الشاهد ، فإنك ترى طالب أمر مهم ، فإذا ظفرت يداه به وأدركه كيف يبرد طلبه ، ويفنى في وجوده ؟ لكن هذا محال في حق العارف ، فإن طلبه لا يفارقه ، بل إذا وجد اشتد طلبه ، فلا يزال طالبا ، فكلما كان أوجد كان أطلب ، نعم ، الذي يفنى طلب حظه في طلب محبوبه وطلب مراضيه ، وليس بعد هذا غاية ، ولكن الذي يشير إليه القوم : أن العبد يصل في منزلة المحبة والمعرفة والاستغراق في المشاهدة إلى حالة تستولي فيها عليه أنواع القرب وآثار الصفات ، [ ص: 349 ] بحيث يذهل لبه عن شعوره بطلبه وإرادته ومحبته .

وإيضاح ذلك : أن العبد إذا أقبل على ربه ، وتفقد أحواله ، وتمكن من شهود قيام ربه عليه ، فإنه يكون في أول أمره : مكابدا وصابرا ومرابطا ، فإذا صبر وصابر ورابط - صبر في نفسه وصابر عدوه ، ورابط على ثغر قلبه أن يدخل فيه خاطر لا يحبه وليه الحق - ظهر حينئذ في قلبه نور من إقباله على ربه ، فإذا قوي ذلك النور غيبه عن وجوده الذهني ، وسرى به في مطاوي الغيب ، فحينئذ يصفو له إقباله على ربه ، فإذا صفا له ذلك غاب عن وجوده العيني والذهني ، فغاب بنور إقباله على ربه بوصول خالص الذكر وصافيه إلى قلبه ، حيث خلا من كل شاغل من الوجود العيني والذهني ، وصار واحدا لواحد ، فيستولي نور المراقبة على أجزاء باطنه ، فيمتلئ قلبه من نور التوجه ، بحيث يغمر قلبه ، ويستره عما سواه ، ثم يسري ذلك النور من باطنه فيعم أجزاء ظاهره ، فيتشابه الظاهر والباطن فيه ، وحينئذ يفنى العبد عما سواه ، ويبقى بالمشهد الروحي الذاتي الموجب للمحبة الخاصة الملهبة للروح .

فمنهم من يضعف لقلة الوارد ، فلا يمكنه أن يتسع لغير ما باشر سره وقلبه من آثار الحب الخاص ، ومنهم من يقوى ويتسع نظره ، فيجد آثار الجلال والجمال المقدس في قلبه وروحه ، ويجد العبودية والمحبة ، والدعاء والافتقار ، والتوكل والخوف والرجاء ، وسائر الأعمال القلبية قائمة بقلبه ، لا تشغله عن مشهد الروح ، ولا تستغرق مشهد الروح عنه ، ويجد ملاحظته للأوامر والنواهي حاضرا في جذر قلبه حيث نزلت الأمانة ، فلا يشغله مشهد الروح المستغرق ، ولا مشهد القلب عن ملاحظة مراضي الرب تعالى ومحابه وحقه على عبده ، ويجد ترك التدبير والاختيار وصحة التفويض موجودا في محل نفسه ، فيعامل الله سبحانه بذلك ، بحيث لا تشغله مشاهدة الأولى عنه ، ويقوم بملاحظة عقله لأسرار حكمة الله في خلقه وأمره ، ولا يحجبه ذلك كله عن ملاحظة عبوديته ، فيبقى مغمور الروح بملاحظة الفردانية وجلالها وكمالها وجمالها ، قد استغرقته محبته والشوق إليه ، معمور القلب بعبادات القلوب معمور القلب بملاحظة الحكمة ومعاني الخطاب ، طاهر القلب عن سفساف الأخلاق ، مع الله تعالى ومع الخلق ، قد صار عبدا محضا لربه بروحه وقلبه وعقله ، ونفسه وبدنه وجوارحه ، قد قام كل بما عليه من العبودية ، بحيث لا تحجبه عبودية بعضه عن عبودية البعض الآخر ، قد فني عن نفسه وبقي بربه ، كما قال أبو بكر الكتاني : جرت مسألة بمكة أيام الموسم في المحبة ، فتكلم الشيوخ فيها ، وكان الجنيد أصغرهم سنا ، فقالوا له : هات ما عندك يا عراقي ، فأطرق ساعة ، ودمعت عيناه ، ثم قال : عبد ذاهب عن [ ص: 350 ] نفسه ، ومتصل بذكر ربه ، قائم بأداء حقوقه ، ناظر إليه بقلبه ، أحرق قلبه أنوار هيبته ، وصفا شربه من كأس وده ، وانكشف له الجبار من أستار غيبه ، فإن تكلم فبالله ، وإن نطق فعن الله ، وإن عمل فبأمر الله ، وإن سكن فمع الله ، فهو لله ، وبالله ، ومع الله .

فبكى الشيوخ ، وقالوا : ما على هذا مزيد جبرك الله يا تاج العارفين .

التالي السابق


الخدمات العلمية