مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل عبادة اللسان

وأما عبوديات اللسان الخمس ، فواجبها النطق بالشهادتين ، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن ، وهو ما تتوقف صحة صلاته عليه ، وتلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر الله بها ورسوله ، كما أمر بالتسبيح في الركوع والسجود ، وأمر بقول " ربنا ولك الحمد " بعد الاعتدال ، وأمر بالتشهد ، وأمر بالتكبير .

ومن واجبه رد السلام ، وفي ابتدائه قولان .

ومن واجبه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتعليم الجاهل ، وإرشاد الضال ، وأداء الشهادة المتعينة ، وصدق الحديث .

وأما مستحبه فتلاوة القرآن ، ودوام ذكر الله ، والمذاكرة في العلم النافع ، وتوابع ذلك .

وأما محرمه فهو النطق بكل ما يبغضه الله ورسوله ، كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث الله به رسوله ، والدعاء إليها ، وتحسينها وتقويتها ، وكالقذف وسب المسلم وأذاه بكل قول ، والكذب ، وشهادة الزور ، والقول على الله بلا علم ، وهو أشدها تحريما .

ومكروهه التكلم بما تركه خير من الكلام به ، مع عدم العقوبة عليه .

وقد اختلف السلف هل في حقه كلام مباح ، متساوي الطرفين ؟ على قولين ، [ ص: 135 ] ذكرهما ابن المنذر وغيره ، أحدهما : أنه لا يخلو كل ما يتكلم به إما أن يكون له أو عليه ، وليس في حقه شيء لا له ولا عليه .

واحتجوا بالحديث المشهور ، وهو " كل كلام ابن آدم عليه لا له ، إلا ما كان من ذكر الله وما والاه " .

واحتجوا بأنه يكتب عليه كلامه كله ، ولا يكتب إلا الخير والشر .

وقالت طائفة : بل هذا الكلام مباح ، لا له ولا عليه ، كما في حركات الجوارح .

قالوا : لأن كثيرا من الكلام لا يتعلق به أمر ولا نهي ، وهذا شأن المباح .

والتحقيق : أن حركة اللسان بالكلام لا تكون متساوية الطرفين ، بل إما راجحة وإما مرجوحة ، لأن للسان شأنا ليس لسائر الجوارح ، وإذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ، تقول : اتق الله ، فإنما نحن بك ، فإن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا ، وأكثر ما يكب الناس على مناخرهم في النار حصائد ألسنتهم ، وكل ما يتلفظ به اللسان فإما أن يكون مما يرضي الله ورسوله أو لا ، فإن كان كذلك فهو الراجح ، وإن لم يكن كذلك فهو المرجوح ، وهذا بخلاف حركات سائر الجوارح ، فإن صاحبها ينتفع بتحريكها في المباح المستوي الطرفين ، لما له في ذلك من الراحة والمنفعة ، [ ص: 136 ] فأبيح له استعمالها فيما فيه منفعة له ، ولا مضرة عليه فيه في الآخرة ، وأما حركة اللسان بما لا ينتفع به فلا يكون إلا مضرة ، فتأمله .

فإن قيل : فقد يتحرك بما فيه منفعة دنيوية مباحة مستوية الطرفين ، فيكون حكم حركته حكم ذلك الفعل .

قيل : حركته بها عند الحاجة إليها راجحة ، وعند عدم الحاجة إليها مرجوحة لا تفيده ، فتكون عليه لا له .

فإن قيل : فإذا كان الفعل متساوي الطرفين ، كانت حركة اللسان التي هي الوسيلة إليه كذلك ، إذ الوسائل تابعة للمقصود في الحكم .

قيل : لا يلزم ذلك ، فقد يكون الشيء مباحا ، بل واجبا ، ووسيلته مكروهة كالوفاء بالطاعة المنذورة هو واجب ، مع أن وسيلته وهو النذر مكروه منهي عنه ، وكذلك الحلف المكروه مرجوح ، مع وجوب الوفاء به أو الكفارة ، وكذلك سؤال الخلق عند الحاجة مكروه ، ويباح له الانتفاع بما أخرجته له المسألة ، وهذا كثير جدا ، فقد تكون الوسيلة متضمنة مفسدة تكره أو تحرم لأجلها ، وما جعلت وسيلة إليه ليس بحرام ولا مكروه .

التالي السابق


الخدمات العلمية