مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 389 ] فصل التفريد

قال صاحب المنازل : " باب التفريد قال الله تعالى أن الله هو الحق المبين التفريد : اسم لتخليص الإشارة إلى الحق ، ثم بالحق ، ثم عن الحق " .

الشيخ جعل التفريد عين التجريد وجعله بعده ، والفرق بينهما : أن التجريد انقطاع عن الأغيار ، والتفريد إفراد الحق بالإيثار ، فالتفريد متعلق بالمعبود ، والتجريد متعلق بالعبودية ، وجعله ثلاث درجات : تخليص الإشارة إلى الحق ، ثم به ، ثم عنه ، فهاهنا أمران ، أحدهما : تخليص الإشارة ، والثاني : متعلق الإشارة .

فأما تخليصها : فهو تجريدها مما يمازجها ويخالطها ، وأما متعلقها ، فثلاثة أمور : الإشارة إلى الحق ، وبه ، وعنه ، فالإشارة إليه : غاية ، والإشارة به : وجود ، والإشارة عنه : إخبار وتبليغ ، فمن خلصت إشارته إلى الحق كان من المخلصين ، ومن كانت إشارته به فهو من الصادقين ، ومن كانت إشارته عنه فهو من المبلغين ، ومن اجتمعت له الثلاثة فهو من الأئمة العارفين ، فالكمال أن تشير إليه به عنه ، فتخليص الإشارة إليه هو حقيقة المتابعة ، وذلك هو محض الصديقية ، فمتى اجتمعت هذه الثلاثة في العبد ، فقد خلعت عليه خلعة الصديقية ، فما كل من أشار إلى الله أشار به ، ولا كل من أشار به أشار عنه ، والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - أجمعين - هم الذين كملوا المراتب الثلاثة ، فخلصت إشارتهم إلى الله وبه وعنه من كل شائبة ، ثم [ ص: 390 ] الأمثل فالأمثل على منهاجهم ، وما أكثر ما تشبه الإشارة إلى الله وبه بالإشارة إلى النفس والإشارة بها ، فيشير إلى نفسه بنفسه ، ظانا أن إشارته بالله وإلى الله ، ولا يميز بين هذا وهذا إلا خواص العارفين ، الفقهاء في معرفة الطريق والمقصود ، وهاهنا انقطع من انقطع واتصل من اتصل ، ولا إله إلا الله ! كم من تنوع في الإشارة ، وبالغ ودقق ، وحقق ، ولم تعد إشارته نفسه ، وهو لا يعلم ، أشار بنفسه وهو يظن أنه أشار بربه ، وإن فلتات لسانه ورائحة كلامه لتنادي عليه : أنا ، وبي ، وعني .

فإذا خلصت الإشارة - بالله ، وعن الله - من جميع الشوائب ؛ كانت متصلة بالله ، خالصة له ، مقبولة لديه ، راضيا بها ، وعلى هذا كان حرص السابقين الأولين ، لا على كثرة العمل ، ولا على تدقيق الإشارة ، كما قال بعض الصحابة : لو أعلم أن الله قبل مني عملا واحدا ؛ لم يكن غائب أحب إلي من الموت ، وليس هذا على معنى أن أعماله كانت لغير الله ، أو على غير سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فشأن القوم كان أجل من ذلك ، ولكن على تخليص الأعمال من شوائب النفوس ، ومشاركات الحظوظ ، فكانوا يخافون - لكمال علمهم بالله وحقوقه عليهم - أن أعمالهم لم تخلص من شوائب حظوظهم ، ومشاركات أنفسهم ، بحيث تكون متمحصة لله وبالله ، ومأخوذة عن الله ، فمن وصل له عمل واحد على هذا الوجه ؛ وصل إلى الله ، والله تعالى شكور ، إذا رضي من العبد عملا من أعماله نجاه ، وأسعده به ، وثمره له ، وبارك له فيه ، وأوصله به إليه ، وأدخله به عليه ، ولم يقطعه به عنه ، فما أكثر المنقطعين بالإشارة عن المشار إليه ، وبالعبادة عن المعبود ، وبالمعرفة عن المعروف ؟ فتكون الإشارات والمعارف قبلة قلبه ، وغاية قصده ، فيتغذى بها ، ويجد من الأنس بها والذوق والوجد ما يسكن قلبه إليه ، ويطمئن به ، ويظن أنه الغاية المطلوبة ، فيصير قلبه محبوسا عن ربه وهو لا يشعر ، وتصير نفسه راتعة في رياض العلوم والمعارف واجدة لها ، وهو يظن أنه قد وصل واتصل ، وعلى منزل الوجود حصل ، فهو دقيق الإشارة ، لطيف العبارة ، ففيه في مسائل السلوك ، وبينه وبين الله حجاب لم ينكشف عنه ، وإنما يرتفع هذا الحجاب بحال التجريد والتفريد ، لا بمجرد علم ذلك ، فبتفريد المعبود المطلوب المقصود عن غيره ، وبتجريد القصد والطلب ، والإرادة والمحبة ، والخوف والرجاء والإنابة والتوكل عليه واللجأ إليه عن الحظوظ وإرادات النفس ، فينكشف عن القلب حجابه ، ويزول عنه ظلامه ، ويطلع فيه فجر التوحيد ، وتبزغ فيه شمس اليقين ، وتستنير له الطريق الغراء ، والمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها .

التالي السابق


الخدمات العلمية