مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : " وأما تفريد الإشارة بالحق : فعلى ثلاث درجات ، تفريد الإشارة بالافتخار بوحا ، وتفريد الإشارة بالسلوك مطالعة ، وتفريد الإشارة بالقبض غيرة .

ذكر أيضا في هذه الدرجة ثلاثة أمور : الافتخار ، والسلوك ، والقبض ، فالافتخار نوعان : مذموم ، ومحمود ، فالمذموم : إظهار مرتبته على أبناء جنسه ترفعا عليهم ، وهذا غير مراد ، والمحمود : إظهار الأحوال السنية ، والمقامات الشريفة ، بوحا بها ، أي تصريحا وإعلانا ، لا على وجه الفخر ، بل على وجه تعظيم النعمة ، والفرح بها ، وذكرها ، ونشرها ، والتحدث بها ، والترغيب فيها وغير ذلك من المقاصد في إظهارها ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : [ ص: 392 ] أنا أول من رمى بسهم في سبيل الله ، وقال أبو ذر رضي الله عنه : لقد أتى علي كذا وكذا وإني لثالث الإسلام ، وقال علي رضي الله عنه : إنه لعهد النبي الأمي إلي : أنه لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق ، وقال عمر رضي الله عنه : وافقت ربي في ثلاث ، وقال علي رضي الله عنه - وأشار إلى صدره : إن هاهنا علما جما ، لو أصبت له حملة ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أخذت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين سورة ، وإن زيدا ليلعب مع الغلمان ، وقال أيضا : ما من كتاب الله آية إلا وأنا أعلم أين نزلت ؟ وماذا أريد بها ؟ ولو أعلم أن أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لرحلت إليه ، وقال بعض الصحابة : لأن تختلف في الأسنة أحب إلي من أن أحدث [ ص: 393 ] نفسي في الصلاة بغير ما أنا فيه ، وهذا أكثر من أن يذكر .

والصادق تختلف عليه الأحوال ، فتارة يبوح بما أولاه ربه ، ومن به عليه ، لا يطيق كتمان ذلك ، وتارة يخفيه ويكتمه ، لا يطيق إظهاره ، فتارة يقبض ، وتارة يبسط وينشط ، وتارة يجد لسانا قائلا لا يسكت ، وتارة لا يقدر أن ينطق بكلمة ، وتارة تجده ضاحكا مسرورا ، وتارة باكيا حزينا ، وتارة يجد جمعية لا سبيل للتفرقة عليها ، وتارة تفرقة لا جمعية معها ، وتارة يقول : واطرباه ! وأخرى يقول : واحرباه ! بخلاف من هو على لون واحد لا يوجد على غيره ، فهذا لون والصادق لون .

قوله : " وتفريد الإشارة بالسلوك مطالعة " ، أي تجريد الإشارة إلى المطلوب بالسلوك اطلاعا على حقائقه .

قوله : " وتفريد الإشارة بالقبض غيرة " ، أي تخليص الإشارة إلى المطلوب بالقبض غيرة عليه .

والمقصود : أنه تارة يفرد إشارته بما أولاه الحق ، لا يكتمه ولا يخفيه ، وتارة يفرد إشارته بحقائق السلوك اطلاعا عليها ، وإطلاعا لغيره ، وتارة يشير بالقبض غيرة وتسترا ، فيشير بالافتخار تارة ، وبالاطلاع تارة ، وبالقبض تارة .

فافتخاره بالمنعم ونعمه ، لا بنفسه وصفته ، وإطلاعه لغيره : تعليم وإرشاد وتبصير ، وقبضه غيرة وستر ، وحقيقة الأمر ما ذكرناه : أن الصادق بحسب دواعي صدقه وحاله مع الله ، وحكم وقته وما أقيم فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية