مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قوله : " والجمع : غاية مقامات السالكين ، وهو طرف بحر التوحيد " .

وجه ذلك : أن السالك ما دام في سلوكه فهو في تفرقة الاستدلال ، وطلب الشواهد ، فإذا وصل إلى مقام المعرفة ، وصار همه هما واحدا - لله ، وفي الله ، وبالله - ينزل في منزلة الجمع ويشمر لركوب بحر التوحيد الذي يتلاشى فيه كل ما [ ص: 402 ] سوى الواحد القهار ، فالجمع عنده : نهاية سفر السالكين إلى الله .

وهذا موضع غير مسلم له على إطلاقه ، وإنما غاية مقام السالكين : التوبة التي هي بدايات منازلهم .

ولعل سمعك ينفر من هذا غاية النفور ، وتقول : هذا كلام من لم يعرف شيئا من طريق القوم ، ولا نزل في منازل الطريق ، ولعمر الله إن كثيرا من الناس ليوافقك على هذا ، ويقول : أين كنا ؟ وأين صرنا ؟ نحن قد قطعنا منزلة التوبة وبيننا وبينها مائة مقام ، فنرجع من مائة مقام إليها ، ونجعلها غاية مقام السالكين ؟

فاسمع الآن وعه ، ولا تعجل بالإنكار ، ولا تبادر بالرد ، وافتح ذهنك لمعرفة نفسك ، وحقوق ربك ، وما ينبغي له منك ، وما له من الحق عليك ، ثم انسب أعمالك وأحوالك وتلك المنازل التي نزلتها والمقامات التي قمت فيها - لله وبالله - إلى عظيم جلاله ، وما يستحقه وما هو له أهل ، فإن رأيتها وافية بذلك مكافئة له فلا حاجة حينئذ إلى التوبة ، والرجوع إليها رجوع عن المقامات العلية ، وانحطاط من علو إلى سفل ، ورجوع من غاية إلى بداية ، وما ذلك ببعيد من كثير من المنتسبين إلى هذا الشأن ، المغرورين بأحوالهم ومعارفهم وإشاراتهم ، وإن رأيت أن أضعاف أضعاف ما قمت به - من صدق وإخلاص ، وإنابة ، وتوكل ، وزهد وعبادة - لا يفي بأيسر حق له عليك ، ولا يكافئ نعمة من نعمه عندك ، وأن ما يستحقه - لجلالته وعظمته - أعظم وأجل وأكبر مما يقوم به الخلق .

فاعلم الآن : أن التوبة نهاية كل عارف ، وغاية كل سالك ، وكما أنها بداية فهي نهاية ، والحاجة إليها في النهاية أشد من الحاجة إليها في البداية ، بل هي في النهاية في محل الضرورة .

فاسمع الآن ما خاطب الله به رسوله في آخر الأمر عند النهاية ، وكيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته أشد ما كان استغفارا وأكثره ، قال الله تعالى : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وهذا أنزله الله [ ص: 403 ] سبحانه بعد غزوة تبوك ، وهي آخر الغزوات التي غزاها - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ، فجعل الله سبحانه التوبة عليهم شكرانا لما تقدم من تلك الأعمال ، وذلك الجهاد ، وقال تعالى في آخر ما أنزل على رسوله : إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - ما صلى صلاة - بعد ما نزلت عليه هذه السورة - إلا قال فيها : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي وذلك في نهاية أمره صلوات الله وسلامه عليه ، ولهذا فهم منها علماء الصحابة - كعمر بن الخطاب ، و عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهم : أن أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أعلمه الله إياه ، فأمره سبحانه بالاستغفار في نهاية أحواله ، وآخر أمره ، على ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - مقاما وحالا ، وآخر ما سمع من كلامه عند قدومه على ربه : اللهم اغفر لي ، وألحقني بالرفيق الأعلى وكان - صلى الله عليه وسلم - يختم على كل عمل صالح بالاستغفار ، كالصوم ، والصلاة ، والحج ، والجهاد ، فإنه كان إذا فرغ منه ، وأشرف على المدينة ، قال : آيبون ، تائبون ، لربنا حامدون وشرع أن يختم المجلس بالاستغفار ، وإن كان [ ص: 404 ] مجلس خير وطاعة ، وشرع أن يختم العبد عمل يومه بالاستغفار ، فيقول عند النوم أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه وأن ينام على سيد الاستغفار .

والعارف بالله وأسمائه وصفاته وحقوقه يعلم أن العبد أحوج ما يكون إلى التوبة في نهايته ، وأنه أحوج إلى التوبة من الفناء ، والاتصال ، وجمع الشواهد ، وجمع الوجود ، وجمع العين ، وكيف يكون ذلك أعلى مقامات السالكين ، وغاية مطلب المقربين ، ولم يأت له ذكر في القرآن ، ولا في السنة ، ولا يعرفه إلا النادر من الناس ، ولا يتصوره أكثرهم إلا بصعوبة ومشقة ، ولو سمعه أكثر الخلق لما فهموه ، ولا عرفوا المراد منه إلا بترجمة ؟ فأين في كتاب الله ، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، أو كلام الصحابة - الذين نسبة معارف من بعدهم إلى معارفهم كنسبة فضلهم ودينهم وجهادهم إليهم - ما يدل على ذلك ، أو يشير إليه ؟ فصار المتأخرون - أرباب هذه الاصطلاحات الحادثة بالألفاظ المجملة ، والمعاني المتشابهة - : أعرف بمقامات السالكين ومنازل السائرين ، وغاياتها من أعلم الخلق بالله بعد رسله ؟ ! هذا من أعظم الباطل .

وهؤلاء في باب الإرادة والطلب والسلوك نظير أرباب الكلام من المعتزلة [ ص: 405 ] والجهمية ومن سلك سبيلهم في باب العلم والخبر عن الله وأسمائه وصفاته ، فالطائفتان - بل وكثير من المصنفين في الفقه - من المتكلفين أشد التكلف ، وقد قال الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحابمحمد : أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، فاعرفوا لهم حقهم ، وتمسكوا بهديهم ، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم .

فلا تجد هذا التكليف الشديد ، والتعقيد في الألفاظ والمعاني عند الصحابة أصلا .

وإنما يوجد عند من عدل عن طريقهم ، وإذا تأمله العارف وجده كلحم جمل غث ، على رأس جبل وعر ، لا سهل فيرتقي ، ولا سمين فينتقل ، فيطول عليك الطريق ، ويوسع لك العبارة ، ويأتي بكل لفظ غريب ومعنى أغرب من اللفظ ، فإذا وصلت لم تجد معك حاصلا طائلا ، ولكن تسمع جعجعة ولا ترى طحنا ، فالمتكلمون في جعاجع الجواهر والأعراض والأكوان والألوان ، والجوهر الفرد ، والأحوال والحركة والسكون ، والوجود والماهية والانحياز ، والجهات والنسب والإضافات ، والغيرين والخلافين ، والضدين والنقيضين ، والتماثل والاختلاف ، والعرض هل يبقى زمانين ؟ وما هو الزمان والمكان ؟ ويموت أحدهم ولم يعرف الزمان والمكان ، ويعترف بأنه لم يعرف الوجود : هل هو ماهية الشيء ، أو زائد عليها ؟ ويعترف : أنه شاك في وجود الرب : هل هو وجود محض ، أو وجود مقارن للماهية ؟ ويقول : الحق عندي الوقف في هذه المسألة .

ويقول أفضلهم - عند نفسه - عند الموت : أخرج من الدنيا وما عرفت إلا مسألة واحدة ، وهي أن الممكن يفتقر إلى واجب ، ثم قال : الافتقار أمر عدمي ، فأموت ولم أعرف شيئا ، وهذا أكثر من أن يذكر ، كما قال بعض السلف : أكثر الناس شكا عند الموت : أرباب الكلام .

وآخرون أعظم تكلفا من هؤلاء ، وأبعد شيء عن العلم النافع ، وهم : أرباب [ ص: 406 ] الهيولي والصورة والأسطقصات ، والأركان والعلل الأربعة ، والجواهر العقلية ، والمفارقات ، والمجردات ، والمقولات العشر ، والكليات الخمس ، والمختلطات والموجهات ، والقضايا المسورات ، والقضايا المهملات ، فهم أعظم الطوائف تكلفا ، وأقلهم تحصيلا للعلم النافع والعمل الصالح .

وكذلك المتكلفون من أصحاب الإرادة والسلوك ، وأرباب الحال والمقام ، والوقت والمكان ، والبادي والباذه والوارد ، والخاطر والواقع والقادح واللامع ، والغيبة والحضور ، والمحق والحق ، والسكر ، واللوائح والطوالع ، والعطش والدهش ، والتلبيس ، والتمكين والتلوين ، والاسم والرسم ، والجمع وجمع الجمع ، وجمع الشواهد وجمع الوجود ، والأثر ، والكون ، والبون ، والاتصال والانفصال ، والمسامرة والمشاهدة ، والمعاينة ، والتجلي ، والتخلي ، وأنا بلا أنا ، وأنت بلا أنت ، ونحن بلا نحن ، وهو بلا هو ، وكل ذلك أدنى إشارة إلى تكلف هؤلاء الطوائف وتنطعهم ، وكذلك كثير من المنتسبين إلى الفقه لهم مثل هذا التكلف وأعظم منه .

فكل هؤلاء محجوبون بما لديهم ، موقوفون على ما عندهم ، خاضوا - بزعمهم - بحار العلم ، وما ابتلت أقدامهم ، وكدوا أفكارهم وأذهانهم وخواطرهم ، وما استنارت بالعلم الموروث عن الرسل قلوبهم وأفهامهم ، فرحين بما عندهم من العلوم راضين بما قيدوا به من الرسوم ، فهم في واد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم في واد ، والله يعلم أنا لم نتجاوز فيهم القول ، بل قصرنا فيما ينبغي لنا أن نقوله ، فذكرنا غيضا من فيض ، وقليلا من كثير .

وهؤلاء كلهم داخلون تحت الرأي ، الذي اتفق السلف على ذمه وذم أهله .

فهم أهل الرأي حقا ، الذين قال فيهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه : إياكم [ ص: 407 ] وأصحاب الرأي ، فإنهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا ، وقال أيضا : أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم أن يعوها ، وتفلتت عليهم أن يرووها ، فاشتغلوا عنها بالرأي وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه : أي أرض تقلني ؟ وأي سماء تظلني ؟ إن قلت في كتاب الله برأيي ، أو بما لا أعلم ، وقال عمر - رضي الله عنه : يا أيها الناس ، إن الرأي كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصيبا ؛ لأن الله عز وجل كان يريه ، وإنما هو منا الظن والتكلف ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما : من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ، ولم تمض به سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لم يدر ما هو على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل ، وقال عمر - رضي الله عنه : يا أيها الناس ، اتهموا رأيكم على الدين ، فقد رأيتني ، وإني لأرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيي ، أجتهد ، والله ما آلو ذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب ، فقالوا : تكتب باسمك اللهم ، فرضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبيت ، فقال : يا عمر ، تراني قد رضيت وتأبى ؟ وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رويناه من طريق مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني سليمان بن عتيق عن طلق بن حبيب عن الأحنف بن قيس عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا هلك المتنطعون ، ألا هلك المتنطعون ، ألا هلك المتنطعون فإن لم تكن هذه الألفاظ والمعاني التي نجدها في كثير من كلام هؤلاء تنطعا فليس للتنطع حقيقة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية