مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

فإن لم يسمح قلبك بكون التوبة غاية مقامات السالكين ، ولم تصغ إلى شيء مما ذكرنا ، وأبيت إلا أن يكون تلاشي نهاية الاتصال في عين الوجود محقا ، وتلاشي علوم الشواهد في العلم اللدني صرفا ، وجمع الوجود وجمع العين : هو نهاية مقامات السالكين إلى الله ، بحيث يدخل في ذلك كل سالك ، فاعلم أن هذا الجمع المذكور بمجرد لا يعطي عبودية ولا إيمانا ، فضلا عن أن يكون غاية كل نبي وولي وعارف ، فإن [ ص: 408 ] هذا الجمع يحصل للصديق والزنديق ، وللملاحدة والاتحادية منه حظ كبير ، وحوله يدندنون ، وهو عندهم نهاية التحقيق ، فأين تحقيق العبودية ، والقيام بأعبائها ، واحتمال فرائضها وسننها وأدائها ، والجهاد لأعداء الله ، والدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحمل الأذى في الله في هذا الجمع ؟ ! وأين معرفة الأسماء والصفات فيه مفصلا ؟ وأين معرفة ما يحبه الرب تعالى ، ويكرهه مفصلا ؟ وأين معرفة خير الخيرين وشر الشرين فيه ؟ وأين العلم بمراتب العبودية ومنازلها فيه ؟ ! .

فالحق أن نهاية السالكين تكميل مرتبة العبودية صرفا ، وهذا مما لا سبيل إليه لبني الطبيعة ، وإنما خص بذلك الخليلان - عليهما الصلاة والسلام - من بين سائر الخلق ، أما إبراهيم الخليل - صلوات الله وسلامه عليه - فإن الله عز وجل شهد له بأنه وفى ، وأما سيد ولد آدم - صلوات الله وسلامه عليه - فإنه كمل مرتبة العبودية ، فاستحق التقديم على سائر الخلائق ، فكان صاحب الوسيلة والشفاعة التي يتأخر عنها جميع الرسل ، ويقول هو : أنا لها ، ولهذا ذكره الله سبحانه وتعالى بالعبودية في أعلى مقاماته ، وأشرف أحواله ، كقوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وقوله : وأنه لما قام عبد الله يدعوه وقوله : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا وقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ولهذا يقول المسيح ، حين يرغب إليه في الشفاعة : اذهبوا إلى محمد ، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فاستحق تلك الرتبة العليا بتكميل عبوديته لله ، وبكمال مغفرة الله له .

فرجع الأمر إلى أن غاية المقامات ونهايتها : هو التوبة والعبودية المحضة ، لا جمع العين ، ولا جمع الوجود ، ولا تلاشي الاتصال .

فإن قلت : فهذا الجمع إنما يحصل لمن قام بحقيقة التوبة والعبودية .

قيل : ليس كذلك ، بل الجمع الذي يحصل لمن قام بذلك : هو جمع الرسل وخلفائهم ، وهو جمع الهمة على الله سبحانه ؛ محبة وإنابة وتوكلا ، وخوفا ورجاء [ ص: 409 ] ومراقبة ، وجمع الهمة على تنفيذ أوامر الله في الخلق دعوة وجهادا ، فهما جمعان : جمع القلب على المعبود وحده ، وجمع الهم له على محض عبوديته .

فإن قلت : فأين شاهد هذين الجمعين ؟ قلت : في القرآن كله ، فخذه من فاتحة الكتاب في قوله : إياك نعبد وإياك نستعين وتأمل ما في قوله " إياك " : التخصيص لذاته المقدسة بالعبادة والاستعانة ، وما في قوله : " نعبد " الذي هو للحال والاستقبال ، وللعبادة الظاهرة والباطنة من استيفاء أنواع العبادة ، حالا واستقبالا ، قولا وعملا ، ظاهرا وباطنا ، والاستعانة على ذلك به لا بغيره ، ولهذا كانت الطريق كلها في هاتين الكلمتين ، وهي معنى قولهم : الطريق في : إياك أريد بما تريد ، فجمع المراد في واحد ، والإرادة في مراده الذي يحبه ويرضاه ، فإلى هذا دعت الرسل من أولهم إلى آخرهم ، وإليه شخص العاملون ، وتوجه المتوجهون ، وكل الأحوال والمقامات - من أولها إلى آخرها - مندرجة في ضمن ذلك ، ومن ثمراته وموجباته .

فالعبودية تجمع كمال الحب في كمال الذل ، وكمال الانقياد لمراضي المحبوب وأوامره ، فهي الغاية التي ليس فوقها غاية ، وإذا لم يكن إلى القيام بحقيقتها - كما يجب - سبيل ، فالتوبة هي المعول والآخية ، وقد عرفت - بهذا وبغيره - أن الحاجة إليها في النهاية أشد من الحاجة إليها في البداية ، ولولا تنسم روحها لحال اليأس بين ابن الماء والطين وبين الوصول إلى رب العالمين ، هذا لو قام بما ينبغي عليه أن يقوم به لسيده من حقوقه ، فكيف والغفلة والتقصير والتفريط والتهاون ، وإيثار حظوظه في كثير من الأوقات على حقوق ربه لا يكاد يتخلص منها ، ولاسيما السالك على درب الفناء والجمع ؟ لأن ربه يطالبه بالعبودية ، ونفسه تطالبه بالجمع والفناء ، ولو حقق النظر مع نفسه وحاسبها حسابا صحيحا لتبين له أن حظه يريد ، ولذته يطلب ، نعم كل أحد يطلب ذلك ، لكن الشأن في الفرق بين من صار حظه نفس مرضاة الله ومحابه ، أحبت ذلك نفسه أو كرهته ، وبين من حظه ما يريد من ربه ، فالأول : حظه مراد ربه الديني الشرعي منه ، وهذا حظه مراده من ربه ، وبالله التوفيق .

فإن قيل : هذا الباب مسلم لأهل الذوق ، وأنتم تتكلمون بلسان العلم لا بلسان الذوق ، والذائق واجد ، والواجد لا يمكنه إنكار موجوده ، فلا يرجع إلى صاحب العلم ، بل يدعوه إلى ذوق ما ذاقه ، ويقول :


أقول للائم المهدي ملامته ذق الهوى وإن اسطعت الملام لم

قيل : لم ينصف من أحال على الذوق ، فإنها حوالة على محكوم عليه لا على [ ص: 410 ] حاكم ، وعلى مشهود له ، لا على شاهد ، وعلى موزون ، لا على ميزان .

ويا سبحان الله ! هل يدل مجرد ذوق الشيء على حكمه ، وأنه حق أو باطل ؟ وهل جعل الله ورسوله الأذواق والمواجيد حججا وأدلة ، يميز بها بين ما يحبه ويرضاه ، وبين ما يكرهه ويسخطه ؟ ولو كان ذلك كذلك : لاحتج كل مبطل على باطله بالذوق والوجد ، كما تجده في كثير من أهل الباطل والإلحاد ، فهؤلاء الاتحادية - وهم أكفر الخلق - يحتجون بالذوق والوجد على كفرهم وإلحادهم حتى ليقول قائلهم :


يا صاحبي أنت تنهاني وتأمرني     والوجد أصدق نهاء وأمار
فإن أطعك وأعص الوجد رحت عم     عن اليقين إلى أوهام أخبار
وعين ما أنت تدعوني إليه إذا     حققته بدل المنهي يا جار

ويقول هذا القائل : ثبت عندنا - بالكشف والذوق - ما يناقض صريح العقل ، وكل معتقد لأمر جازم به ، مستحسن له : يذوق طعمه ، فالملحد يذوق طعم الاتحاد والانحلال من الدين ، والرافضي يذوق طعم الرفض ، ومعاداة خيار الخلق ، والقدري يذوق طعم إنكار القدر ، ويعجب ممن يثبته ، والجبري عكسه ، والمشرك يذوق طعم الشرك ، حتى إنه ليستبشر إذا ذكر إلهه ومعبوده من دون الله ، ويشمئز قلبه إذا ذكر الله وحده .

وهذا الاحتجاج قد سلكه أرباب السماع المحدث الشيطاني ، الذي هو محض شهوة النفس وهواها ، واحتجوا على إباحة هذا السماع بما فيه من الذوق والوجد واللذة ، وأنت تجد النصراني له في تثليثه ذوق ، ووجد وحنين ، بحيث لو عرض عليه أشد العذاب لاختاره ، دون أن يفارق تثليثه ، لما له فيه من الذوق .

وحينئذ ، فيقال : هب أن الأمر كما تقول ، وأن المتكلم المنكر لم يتكلم بلسان الذوق ، فهل يصح أن يكون ذوق الذائق لذلك حجة صحيحة نافعة له بينه وبين الله ؟ ولو فرضنا أن هذا المنكر قال : نعم ، أنا محجوب عن الوصول إلى ما أنكرته ، غير ذائق له ، وأنت ذائق واصل ، فما علامة ما ذقته ، ووصلت إليه ؟ وما الدليل عليه ؟ وأنا لا أنكر ذوقك له ووجدك به ، ولكن الشأن في المذوق لا في الذوق ، وإذا ذاق المحب العاشق طعم محبته وعشقه لمحبوبه ، ما كان غاية ذلك : إلا أن يدل على وجود محبته وعشقه ، لا على كون ذلك نافعا له أو ضارا ، أو موجبا لكماله أو نقصه ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية