مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

إذا عرفت هذه المقدمات : فالجمع الصحيح - الذي عليه أهل الاستقامة - هو جمع توحيد الربوبية وجمع توحيد الإلهية ، فيشهد صاحبه قيومية الرب تعالى فوق عرشه ، يدبر أمر عباده وحده ، فلا خالق ولا رازق ، ولا معطي ولا مانع ، ولا مميت ولا محيي ، ولا مدبر لأمر المملكة - ظاهرا وباطنا - غيره ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، ولا يجري حادث إلا بمشيئته ولا تسقط ورقة إلا بعلمه ، ولا يغرب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاها علمه ، وأحاطت بها قدرته ، ونفذت بها مشيئته ، واقتضتها حكمته ، فهذا جمع توحيد الربوبية .

وأما جمع توحيد الإلهية ، فهو : أن يجمع قلبه وهمه وعزمه على الله ، وإرادته ، وحركاته على أداء حقه تعالى ، والقيام بعبوديته سبحانه ، فتجتمع شئون إرادته على مراده الديني الشرعي .

وهذان الجمعان : هما حقيقة إياك نعبد وإياك نستعين فإن العبد يشهد من [ ص: 472 ] قوله " إياك " الذات الجامعة لجميع صفات الكمال ، التي لها كل الأسماء الحسنى ، ثم يشهد من قوله " نعبد " جميع أنواع العبادة ظاهرا وباطنا ، قصدا وقولا وعملا وحالا واستقبالا ، ثم يشهد من قوله " وإياك نستعين " جميع أنواع الاستعانة ، والتوكل والتفويض ، فيشهد منه جمع الربوبية ، ويشهد من " إياك نعبد " جمع الإلهية ، ويشهد من " إياك " الذات الجامعة لكل الأسماء الحسنى والصفات العلى .

ثم يشهد من " اهدنا " عشر مراتب ، إذا اجتمعت حصلت له الهداية .

المرتبة الأولى : هداية العلم والبيان ، فيجعله عالما بالحق مدركا له .

الثانية : أن يقدره عليه ، وإلا فهو غير قادر بنفسه .

الثالثة : أن يجعله مريدا له .

الرابعة : أن يجعله فاعلا له .

الخامسة : أن يثبته على ذلك ، ويستمر به عليه .

السادسة : أن يصرف عنه الموانع والعوارض المضادة له .

السابعة : أن يهديه في الطريق نفسها هداية خاصة ، أخص من الأولى ، فإن الأولى هداية إلى الطريق إجمالا ، وهذه هداية فيها وفي منازلها تفصيلا .

الثامنة : أن يشهده المقصود في الطريق ، وينبهه عليه ، فيكون مطالعا له في سيره ، ملتفتا إليه ، غير محتجب بالوسيلة عنه .

التاسعة : أن يشهده فقره وضرورته إلى هذه الهداية فوق كل ضرورة .

العاشرة : أن يشهده الطريقين المنحرفين عن طريقها ، وهما طريق أهل الغضب ، الذين عدلوا عن اتباع الحق قصدا وعنادا ، وطريق أهل الضلال الذين عدلوا عنها جهلا وضلالا ، ثم يشهد جمع الصراط المستقيم في طريق واحد عليه جميع أنبياء الله ورسله ، وأتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين .

فهذا هو الجمع الذي عليه رسل الله وأتباعهم ، فمن حصل له هذا الجمع ، فقد الصراط المستقيم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية