مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل القصد

فإذا انتبه وأبصر أخذ في القصد وصدق الإرادة ، وأجمع القصد والنية على سفر الهجرة إلى الله ، وعلم وتيقن أنه لا بد له منه ، فأخذ في أهبة السفر ، وتعبئة الزاد ليوم المعاد ، والتجرد عن عوائق السفر ، وقطع العلائق التي تمنعه من الخروج .

وقد قسم صاحب المنازل القصد إلى ثلاث درجات ، فقال :

[ ص: 151 ] الدرجة الأولى : قصد يبعث على الارتياض ، ويخلص من التردد ، ويدعو إلى مجانبة الأغراض .

فذكر له ثلاث فوائد : أنه يبعث على السلوك بلا توقف ، ولا تردد ، ولا علة غير العبودية ، من رياء أو سمعة ، أو طلب محمدة ، أو جاه ومنزلة عند الخلق .

قال : الدرجة الثانية : قصد لا يلقى سببا إلا قطعه ، ولا حائلا إلا منعه ولا تحاملا إلا سهله .

يعني أنه لا يلقى سببا يعوق عن المقصود إلا قطعه ، ولا حائلا دونه إلا منعه ولا صعوبة إلا سهلها .

قال : الدرجة الثالثة : قصد الاستسلام لتهذيب العلم ، وقصد إجابة داعي الحكم ، وقصد اقتحام بحر الفناء .

يريد أنه ينقاد إلى العلم ليتهذب به ويصلح ، ويقصد إجابة داعي الحكم الديني الأمري كلما دعاه ، فإن للحكم في كل مسألة من مسائل العلم مناديا ينادي للإيمان بها علما وعملا ، فيقصد إجابة داعيها ، ولكن مراده بداعي الحكم : الأسرار والحكم الداعية إلى شرع الحكم ، فإجابتها قدر زائد على مجرد الامتثال ، فإنها تدعو إلى المحبة والإجلال ، والمعرفة والحمد ، فالأمر يدعو إلى الامتثال ، وما تضمنه من الحكم ، والغايات تدعو إلى المعرفة والمحبة .

وقوله : وقصد اقتحام بحر الفناء .

هذا هو الغاية المطلوبة عند القوم ، وهو عند بعضهم لازم من لوازم الطريق ، وليس بغاية ، وعند آخرين عارض من عوارض الطريق ، وليس بغاية ، ولا هو لازم لكل سالك ، وأهل القوة والعزم لا يعرض لهم ، وحال البقاء أكمل منه ، ولهذا كان البقاء حال نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ، وقد رأى ما رأى ، وحال موسى الفناء ، ولهذا خر صعقا عند تجلي الله للجبل ، وامرأة العزيز كانت أكمل حبا ليوسف من النسوة ، ولم يعرض لها ما عرض لهن عند رؤية يوسف لفنائهن وبقائها ، وسيأتي إن شاء الله تحقيق الكلام فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية