مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 152 ] فصل العزم

فإذا استحكم قصده صار عزما جازما ، مستلزما للشروع في السفر ، مقرونا بالتوكل على الله ، قال تعالى فإذا عزمت فتوكل على الله .

والعزم : هو القصد الجازم المتصل بالفعل ، ولذلك قيل : إنه أول الشروع في الحركة لطلب المقصود ، وأن التحقيق : أن الشروع في الحركة ناشئ عن العزم ، لا أنه هو نفسه ، ولكن لما اتصل به من غير فصل ظن أنه هو .

وحقيقته : هو استجماع قوى الإرادة على الفعل .

والعزم نوعان ، أحدهما : عزم المريد على الدخول في الطريق ، وهو من البدايات ، والثاني : عزم في حال السير معه ، وهو أخص من هذا ، وهو من المقامات ، وسنذكره في موضعه إن شاء الله .

وفي هذه المنزلة يحتاج السالك إلى تمييز ما له مما عليه ، ليستصحب ما له ويؤدي ما عليه ، وهو المحاسبة وهي قبل التوبة في المرتبة ، فإنه إذا عرف ما له وما عليه أخذ في أداء ما عليه ، والخروج منه ، وهو التوبة .

وصاحب المنازل قدم التوبة على المحاسبة ، ووجه هذا أنه رأى التوبة أول منازل السائر بعد يقظته ، ولا تتم التوبة إلا بالمحاسبة ، فالمحاسبة تكميل مقام التوبة ، فالمراد بالمحاسبة الاستمرار على حفظ التوبة ، حتى لا يخرج عنها ، وكأنه وفاء بعقد التوبة .

واعلم أن ترتيب هذه المقامات ليس باعتبار أن السالك يقطع المقام ويفارقه وينتقل إلى الثاني ، كمنازل السير الحسي ، هذا محال ، ألا ترى أن اليقظة معه في كل مقام لا تفارقه ، وكذلك البصيرة والإرادة والعزم وكذلك التوبة فإنها كما أنها من أول المقامات فهي آخرها أيضا ، بل هي في كل مقام مستصحبة ، ولهذا جعلها الله [ ص: 153 ] تعالى آخر مقامات خاصته ، فقال تعالى في غزوة تبوك ، وهي آخر الغزوات التي قطعوا فيها الأودية والبدايات والأحوال والنهايات لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم فجعل التوبة أول أمرهم وآخره ، وقال في سورة أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي آخر سورة أنزلت إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا .

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صلى صلاة بعد إذ أنزلت عليه هذه السورة إلا قال في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي ، يتأول القرآن فالتوبة هي نهاية كل سالك وكل ولي لله ، وهي الغاية التي يجري إليها العارفون بالله وعبوديته ، وما ينبغي له ، قال تعالى إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما فجعل سبحانه التوبة غاية كل مؤمن ومؤمنة .

وكذلك الصبر فإنه لا ينفك عنه في مقام من المقامات .

وإنما هذا الترتيب ترتيب المشروط المتوقف على شرطه المصاحب له .

ومثال ذلك : أن الرضا مترتب على الصبر لتوقف الرضا عليه ، واستحالة ثبوته بدونه ، فإذا قيل : إن مقام الرضا أو حاله على الخلاف بينهم هل هو مقام أو حال ؟ بعد مقام الصبر لا يعني به أنه يفارق الصبر وينتقل إلى الرضا وإنما يعني أنه لا يحصل له مقام الرضا حتى يتقدم له قبله مقام الصبر ، فافهم هذا الترتيب في مقامات العبودية .

وإذا كان كذلك علمت أن القصد والعزم متقدم على سائر المنازل فلا وجه [ ص: 154 ] لتأخيره ، وعلمت بذلك أن المحاسبة متقدمة على التوبة بالرتبة أيضا ، فإنه إذا حاسب العبد نفسه خرج مما عليه ، وهي حقيقة التوبة ، وأن منزلة التوكل قبل منزلة الإنابة ، لأنه يتوكل في حصولها ، فالتوكل وسيلة ، والإنابة غاية ، وأن مقام التوحيد أولى المقامات أن يبدأ به ، كما أنه أول دعوة الرسل كلهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وفي رواية " إلى أن يعرفوا الله " ولأنه لا يصح مقام من المقامات ، ولا حال من الأحوال إلا به ، فلا وجه لجعله آخر المقامات ، وهو مفتاح دعوة الرسل ، وأول فرض فرضه الله على العباد ، وما عدا هذا من الأقوال فخطأ ، كقول من يقول : أول الفروض النظر ، أو القصد إلى النظر ، أو المعرفة ، أو الشك الذي يوجب النظر .

وكل هذه الأقوال خطأ ، بل أول الواجبات مفتاح دعوة المرسلين كلهم ، وهو أول ما دعا إليه فاتحهم نوح ، فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وهو أول ما دعا إليه خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم .

ولأرباب السلوك اختلاف كثير في عدد المقامات وترتيبها ، كل يصف منازل سيره ، [ ص: 155 ] وحال سلوكه ، ولهم اختلاف في بعض منازل السير هل هي من قسم الأحوال ؟ والفرق بينهما : أن المقامات كسبية ، والأحوال وهبية ، ومنهم من يقول : الأحوال من نتائج المقامات ، والمقامات نتائج الأعمال ، فكل من كان أصلح عملا كان أعلى مقاما ، وكل من كان أعلى مقاما كان أعظم حالا .

فمما اختلفوا فيه الرضا هل هو حال ، أو مقام ؟ فيه خلاف بين الخراسانيين والعراقيين .

وحكم بينهم بعض الشيوخ ، فقال : إن حصل بكسب فهو مقام ، وإلا فهو حال .

والصحيح في هذا أن الواردات والمنازلات لها أسماء باعتبار أحوالها ، فتكون لوامع [ ص: 156 ] وبوارق ولوائح عند أول ظهورها وبدوها ، كما يلمع البارق ويلوح عن بعد ، فإذا نازلته وباشرها فهي أحوال ، فإذا تمكنت منه وثبتت له من غير انتقال فهي مقامات ، وهي لوامع ولوائح في أولها ، وأحوال في أوسطها ، ومقامات في نهاياتها ، فالذي كان بارقا هو بعينه الحال ، والذي كان حالا هو بعينه المقام ، وهذه الأسماء له باعتبار تعلقه بالقلب ، وظهوره له ، وثباته فيه .

وقد ينسلخ السالك من مقامه كما ينسلخ من الثوب ، وينزل إلى ما دونه ، ثم قد يعود إليه ، وقد لا يعود .

ومن المقامات ما يكون جامعا لمقامين .

ومنها ما يكون جامعا لأكثر من ذلك .

ومنها ما يندرج فيه جميع المقامات ، فلا يستحق صاحبه اسمه إلا عند استجماع جميع المقامات فيه .

فالتوبة جامعة لمقام المحاسبة ومقام الخوف ، لا يتصور وجودها بدونهما .

والتوكل جامع لمقام التفويض والاستعانة والرضى ، لا يتصور وجوده بدونها .

والرجاء جامع لمقام الخوف والإرادة .

والخوف جامع لمقام الرجاء والإرادة .

والإنابة جامعة لمقام المحبة والخشية ، لا يكون العبد منيبا إلا باجتماعهما .

والإخبات له جامع لمقام المحبة والذل والخضوع ، لا يكمل أحدها بدون الآخر إخباتا .

والزهد جامع لمقام الرغبة والرهبة ، لا يكون زاهدا من لم يرغب فيما يرجو نفعه ، ويرهب مما يخاف ضرره .

ومقام المحبة جامع لمقام المعرفة والخوف والرجاء والإرادة ، فالمحبة معنى يلتئم من هذه الأربعة ، وبها تحققها .

ومقام الخشية جامع لمقام المعرفة بالله ، والمعرفة بحق عبوديته ، فمتى عرف الله [ ص: 157 ] وعرف حقه اشتدت خشيته له ، كما قال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء فالعلماء به وبأمره هم أهل خشيته ، قال النبي صلى الله عليه وسلم أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية .

ومقام الهيبة جامع لمقام المحبة والإجلال والتعظيم .

ومقام الشكر جامع لجميع مقامات الإيمان ، ولذلك كان أرفعها وأعلاها ، وهو فوق الرضا وهو يتضمن الصبر من غير عكس ، ويتضمن التوكل والإنابة والحب والإخبات والخشوع والرجاء فجميع المقامات مندرجة فيه ، لا يستحق صاحبه اسمه على الإطلاق إلا باستجماع المقامات له ، ولهذا كان الإيمان نصفين : نصف صبر ، ونصف شكر ، والصبر داخل في الشكر ، فرجع الإيمان كله شكرا ، والشاكرون هم أقل العباد ، كما قال تعالى وقليل من عبادي الشكور .

ومقام الحياء جامع لمقام المعرفة والمراقبة .

ومقام الأنس جامع لمقام الحب مع القرب ، فلو كان المحب بعيدا من محبوبه لم يأنس به ، ولو كان قريبا من رجل ولم يحبه لم يأنس به ، حتى يجتمع له حبه مع القرب منه .

ومقام الصدق جامع للإخلاص والعزم ، فباجتماعهما يصح له مقام الصدق .

ومقام المراقبة جامع للمعرفة مع الخشية ، فبحسبهما يصح مقام المراقبة .

ومقام الطمأنينة جامع للإنابة والتوكل ، والتفويض والرضى والتسليم ، فهو معنى ملتئم من هذه الأمور ، إذا اجتمعت صار صاحبها صاحب طمأنينة ، وما نقص منها نقص من الطمأنينة .

[ ص: 158 ] وكذلك الرغبة والرهبة كل منهما ملتئم من الرجاء والخوف ، والرجاء على الرغبة أغلب ، والخوف على الرهبة أغلب .

وكل مقام من هذه المقامات فالسالكون بالنسبة إليه نوعان : أبرار ، ومقربون ، فالأبرار في أذياله ، والمقربون في ذروة سنامه ، وهكذا مراتب الإيمان جميعها ، وكل من النوعين لا يحصي تفاوتهم ، وتفاضل درجاتهم إلا الله .

وتقسيمهم ثلاثة أقسام عام ، وخاص ، وخاص خاص إنما نشأ من جعل الفناء غاية الطريق ، وعلم القوم الذي شمروا إليه ، وسنذكر ما في ذلك ، وأقسام الفناء محموده ومذمومه ، فاضله ومفضوله ، فإن إشارة القوم إليه ، إن شاء الله ، ومدارهم عليه .

على أن الترتيب الذي يشير إليه كل مرتب للمنازل لا يخلو عن تحكم ، ودعوى من غير مطابقة ، فإن العبد إذا التزم عقد الإسلام ، ودخل فيه كله ، فقد التزم لوازمه الظاهرة والباطنة ، ومقاماته وأحواله ، وله في كل عقد من عقوده وواجب من واجباته أحوال ومقامات ، لا يكون موفيا لذلك العقد والواجب إلا بها ، وكلما وفى واجبا أشرف على واجب آخر بعده ، وكلما قطع منزلة استقبل أخرى .

وقد يعرض له أعلى المقامات والأحوال في أول بداية سيره ، فينفتح عليه من حال المحبة والرضا والأنس والطمأنينة ما لم يحصل بعد لسالك في نهايته ، ويحتاج هذا السالك في نهايته إلى أمور من البصيرة ، والتوبة ، والمحاسبة أعظم من حاجة صاحب البداية إليها ، فليس في ذلك ترتيب كلي لازم للسلوك .

وقد ذكرنا أن التوبة التي جعلوها من أول المقامات هي غاية العارفين ، ونهاية أولياء الله المقربين ، ولا ريب أن حاجتهم إلى المحاسبة في نهايتهم ، فوق حاجتهم إليها في بدايتهم .

فالأولى الكلام في هذه المقامات على طريق المتقدمين من أئمة القوم كلاما مطلقا في كل مقام مقام ، ببيان حقيقته وموجبه ، وآفته المانعة من حصوله ، والقاطع عنه ، وذكر عامه وخاصه .

فكلام أئمة الطريق هو على هذا المنهاج ، فمن تأمله كسهل بن عبد الله [ ص: 159 ] التستري ، وأبي طالب المكي ، والجنيد بن محمد ، وأبي عثمان النيسابوري ، ويحيى بن معاذ الرازي وأرفع من هؤلاء طبقة ، مثل أبي سليمان الداراني ، وعون بن عبد الله الذي كان يقال له حكيم الأمة وأضرابهما ، فإنهم تكلموا على أعمال القلوب ، وعلى الأحوال كلاما مفصلا جامعا مبينا مطلقا من غير ترتيب ، ولا حصر للمقامات بعدد معلوم ، فإنهم كانوا أجل من هذا ، وهمهم أعلى وأشرف ، إنما هم حائمون على اقتباس الحكمة والمعرفة ، وطهارة القلوب ، وزكاة النفوس ، وتصحيح المعاملة ، ولهذا كلامهم قليل فيه البركة ، وكلام المتأخرين كثير طويل قليل البركة .

ولكن لا بد من مخاطبة أهل الزمان باصطلاحهم ، إذ لا قوة لهم للتشمير إلى تلقي [ ص: 160 ] السلوك عن السلف الأول وكلماتهم وهديهم ، ولو برز لهم هديهم وحالهم لأنكروه ، ولعدوه سلوكا عاميا ، وللخاصة سلوك آخر ، كما يقول ضلال المتكلمين وجهلتهم : إن القوم كانوا أسلم ، وإن طريقنا أعلم ، وكما يقول من لم يقدر قدرهم من المنتسبين إلى الفقه : إنهم لم يتفرغوا لاستنباطه ، وضبط قواعده وأحكامه ، اشتغالا منهم بغيره ، والمتأخرون تفرغوا لذلك ، فهم أفقه .

فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف ، وعن عمق علومهم ، وقلة تكلفهم ، وكمال بصائرهم ، وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها ، وضبط قواعدها ، وشد معاقدها ، وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء ، فالمتأخرون في شأن والقوم في شأن ، و قد جعل الله لكل شيء قدرا .

فالأولى بنا : أن نذكر منازل العبودية الواردة في القرآن والسنة ، ونشير إلى معرفة حدودها ومراتبها ، إذ معرفة ذلك من تمام معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله ، وقد وصف الله تعالى من لم يعرفها بالجهل والنفاق ، فقال تعالى الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله فبمعرفة حدودها دراية ، والقيام بها رعاية يستكمل العبد الإيمان ، ويكون من أهل " إياك نعبد وإياك نستعين " .

ونذكر لها ترتيبا غير مستحق ، بل مستحسن ، بحسب ترتيب السير الحسي ، ليكون ذلك أقرب إلى تنزيل المعقول منزلة المشهود بالحس ، فيكون التصديق أتم ، ومعرفته أكمل ، وضبطه أسهل .

فهذه فائدة ضرب الأمثال ، وهي خاصة العقل ولبه ، ولهذا أكثر الله تعالى منها في القرآن ، ونفى عقلها عن غير العلماء ، فقال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون .

فاعلم أن العبد قبل وصول الداعي إليه في نوم الغفلة ، قلبه نائم وطرفه يقظان ، فصاح به الناصح ، وأسمعه داعي النجاح ، وأذن به مؤذن الرحمن : حي على الفلاح .

[ ص: 161 ] فأول مراتب هذا النائم اليقظة والانتباه من النوم ، وقد ذكرنا أنها انزعاج القلب لروعة الانتباه .

وصاحب المنازل يقول : هي القومة لله المذكورة في قوله قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى .

قال : القومة لله هي اليقظة من سنة الغفلة ، والنهوض عن ورطة الفترة ، وهي أول ما يستنير قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه ، وهي على ثلاثة أشياء : لحظ القلب إلى النعمة ، على اليأس من عدها ، والوقوف على حدها ، والتفرغ إلى معرفة المنة بها ، والعلم بالتقصير في حقها .

وهذا الذي ذكره هو موجب اليقظة وأثرها ، فإنه إذا نهض من ورطة الغفلة لاستنارة قلبه برؤية نور التنبيه ، أوجب له ملاحظة نعم الله الباطنة والظاهرة ، وكلما حدق قلبه وطرفه فيها شاهد عظمتها وكثرتها ، فيئس من عدها ، والوقوف على حدها ، وفرغ قلبه لمشاهدة منة الله عليه بها ، من غير استحقاق ، ولا استجلاب لها بثمن ، فتيقن حينئذ تقصيره في واجبها ، وهو القيام بشكرها .

فأوجب له شهود تلك المنة والتقصير نوعين جليلين من العبودية : محبة المنعم ، واللهج بذكره ، وتذكر الله وخضوعه له ، وإزراؤه على نفسه ، حيث عجز عن شكر نعمه ، فصار متحققا ب " أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " وعلم حينئذ أن هذا الاستغفار حقيق بأن يكون سيد الاستغفار ، وعلم حينئذ أن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ، وعلم أن العبد دائما سائر إلى الله بين مطالعة المنة ، ومشاهدة التقصير .

قال : الثاني : مطالعة الجناية ، والوقوف على الخطر فيها ، والتشمير لتداركها ، [ ص: 162 ] والتخلص من رقها ، وطلب النجاة بتمحيصها .

فينظر إلى ما سلف منه من الإساءة ، ويعلم أنه على خطر عظيم فيها ، وأنه مشرف على الهلاك بمؤاخذة صاحب الحق بموجب حقه ، وقد ذم الله تعالى في كتابه من نسي ما تقدم يداه ، فقال ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه فإذا طالع جنايته شمر لاستدراك الفارط بالعلم والعمل ، وتخلص من رق الجناية بالاستغفار والندم ، وطلب التمحيص ، وهو تخليص إيمانه ومعرفته من خبث الجناية ، كتمحيص الذهب والفضة ، وهو تخليصهما من خبثهما ، ولا يمكن دخوله الجنة إلا بعد هذا التمحيص ، فإنها طيبة لا يدخلها إلا طيب ، ولهذا تقول لهم الملائكة سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقال تعالى الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة فليس في الجنة ذرة خبث .

وهذا التمحيص يكون في دار الدنيا بأربعة أشياء : بالتوبة ، والاستغفار ، وعمل الحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة ، فإن محصته هذه الأربعة وخلصته كان من الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، يبشرونهم بالجنة ، وكان من الذين تتنزل عليهم الملائكة عند الموت أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم .

وإن لم تف هذه الأربعة بتمحيصه وتخليصه ، فلم تكن التوبة نصوحا وهي العامة الشاملة الصادقة ولم يكن الاستغفار النافع ، لا استغفار من في يده قدح السكر ، وهو يقول : أستغفر الله ، ثم يرفعه إلى فيه ، ولم تكن الحسنات في كميتها وكيفيتها وافية بالتكفير ، ولا المصائب ، وهذا إما لعظم الجناية ، وإما لضعف الممحص ، وإما لهما - محص في البرزخ بثلاثة أشياء :

أحدها : صلاة أهل الإيمان الجنازة عليه ، واستغفارهم له ، وشفاعتهم فيه .

الثاني : تمحيصه بفتنة القبر ، وروعة الفتان ، والعصرة والانتهار ، وتوابع ذلك .

[ ص: 163 ] الثالث : ما يهدي إخوانه المسلمون إليه من هدايا الأعمال ، من الصدقة عنه ، والحج ، والصيام عنه ، وقراءة القرآن عنه ، والصلاة ، وجعل ثواب ذلك له ، وقد أجمع الناس على وصول الصدقة والدعاء ، قال الإمام أحمد : لا يختلفون في ذلك ، وما عداهما فيه اختلاف ، والأكثرون يقولون بوصول الحج ، وأبو حنيفة يقول : إنما يصل إليه ثواب الإنفاق ، وأحمد ومن وافقه مذهبهم في ذلك أوسع المذاهب ، يقولون : يصل إليه ثواب جميع القرب ، بدنيها وماليها ، والجامع للأمرين ، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله " يا رسول الله ، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما ؟ قال : نعم ، فذكر الحديث " ، وقد قال صلى الله عليه وسلم من مات وعليه صيام صام عنه وليه .

فإن لم تف هذه بالتمحيص ، محص بين يدي ربه في الموقف بأربعة أشياء : أهوال القيامة ، وشدة الموقف ، وشفاعة الشفعاء ، وعفو الله عز وجل .

فإن لم تف هذه الثلاثة بتمحيصه فلا بد له من دخول الكير ، رحمة في حقه ليتخلص ويتمحص ، ويتطهر في النار ، فتكون النار طهرة له وتمحيصا لخبثه ، ويكون مكثه فيها على حسب كثرة الخبث وقلته ، وشدته وضعفه وتراكمه ، فإذا خرج خبثه وصفي ذهبه ، وصار خالصا طيبا ، أخرج من النار ، وأدخل الجنة .

قال : الثالث يعني من مراتب اليقظة : الانتباه لمعرفة الزيادة والنقصان من الأيام ، والتنصل من تضييعها ، والنظر إلى الظن بها لتدارك فائتها ، وتعمير باقيها .

يعني أنه يعرف ما معه من الزيادة والنقصان ، فيتدارك ما فاته في بقية عمره التي لا ثمن لها ، ويبخل بساعاته بل بأنفاسه عن ذهابها ضياعا في غير ما يقربه إلى الله ، فهذا هو حقيقة الخسران المشترك بين الناس ، مع تفاوتهم في قدره ، قلة وكثرة ، فكل نفس يخرج في غير ما يقرب إلى الله فهو حسرة على العبد في معاده ، ووقفة له في طريق سيره ، أو نكسة إن استمر ، أو حجاب إن انقطع به .

[ ص: 164 ] قال : فأما معرفة النعمة فإنها تصفو بثلاثة أشياء : بنور العقل ، وشيم بروق المنة ، والاعتبار بأهل البلاء .

يعني أن حقيقة مشاهدة النعمة يصفو بهذه الثلاثة ، فهي النور الذي أوجب اليقظة ، فاستنار القلب به لرؤية التنبه ، وعلى حسبه قوة وضعفا تصفو له مشاهدة النعمة ، فإن من لم ير نعمة الله عليه إلا في مأكله وملبسه ، وعافية بدنه ، وقيام وجهه بين الناس ، فليس له نصيب من هذا النور البتة ، فنعمة الله بالإسلام والإيمان ، وجذب عبده إلى الإقبال عليه ، والتنعم بذكره ، والتلذذ بطاعته هو أعظم النعم ، وهذا إنما يدرك بنور العقل ، وهداية التوفيق .

وكذلك شيمه بروق منن الله عليه ، وهو النظر إليها ، ومطالعتها من خلال سحب الطبع ، وظلمات النفس ، والنظر إلى أهل البلاء وهم أهل الغفلة عن الله ، والابتداع في دين الله فهذان الصنفان هم أهل البلاء حقا ، فإذا رآهم ، وعلم ما هم عليه ، عظمت نعمة الله عليه في قلبه ، وصفت له وعرف قدرها ، فالضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء .

حتى إن من تمام نعيم أهل الجنة رؤية أهل النار وما هم فيه من العذاب .

قال : وأما مطالعة الجناية فإنها تصح بثلاثة أشياء : بتعظيم الحق ، ومعرفة النفس ، وتصديق الوعيد .

يعني أن من كملت عظمة الحق تعالى في قلبه عظمت عنده مخالفته ، لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة من هو دونه ، ومن عرف قدر نفسه وحقيقتها ، وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونفس ، وشدة حاجتها إليه ، عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كل لحظة ونفس .

وأيضا فإذا عرف حقارتها مع عظم قدر من خالفه عظمت الجناية عنده ، فشمر في التخلص منها ، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به ، يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تلحق به .

ومدار السعادة ، وقطب رحاها على التصديق بالوعيد ، فإذا تعطل من قلبه التصديق بالوعيد خرب خرابا لا يرجى معه فلاح البتة ، والله تعالى أخبر أنه إنما تنفع [ ص: 165 ] الآيات والنذر لمن صدق بالوعيد ، وخاف عذاب الآخرة ، فهؤلاء هم المقصودون بالإنذار ، والمنتفعون بالآيات دون من عداهم ، قال الله تعالى إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة وقال إنما أنت منذر من يخشاها وقال فذكر بالقرآن من يخاف وعيد وأخبر تعالى أن أهل النجاة في الدنيا والآخرة هم المصدقون بالوعيد ، الخائفون منه ، فقال تعالى ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد .

قال : وأما معرفة الزيادة والنقصان من الأيام فإنها تستقيم بثلاثة أشياء : سماع العلم ، وإجابة داعي الحرمة ، وصحبة الصالحين ، وملاك ذلك كله خلع العادات .

يعني أن السالك على حسب علمه بمراتب الأعمال ، ونفائس الكسب ، تكون معرفته بالزيادة والنقصان في حاله وإيمانه ، وكذلك تفقد إجابة داعي تعظيم حرمات الله من قلبه هل هو سريع الإجابة لها ، أم هو بطيء عنها ؟ فبحسب إجابة الداعي سرعة وإبطاء تكون زيادته ونقصانه .

وكذلك صحبة أرباب العزائم ، والمشمرين إلى اللحاق بالملأ الأعلى يعرف به ما معه من الزيادة والنقصان .

والذي يملك به ذلك كله خروجه عن العادات والمألوفات ، وتوطين النفس على مفارقتها ، والغربة بين أهل الغفلة والإعراض ، وما على العبد أضر من ملك العادات له ، وما عارض الكفار الرسل إلا بالعادات المستقرة ، الموروثة لهم عن الأسلاف الماضين ، فمن لم يوطن نفسه على مفارقتها والخروج عنها ، والاستعداد للمطلوب منه ، فهو مقطوع ، وعن فلاحه وفوزه ممنوع ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين .

التالي السابق


الخدمات العلمية