مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

ولما كانت التوبة هي رجوع العبد إلى الله ، ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين ، وذلك لا يحصل إلا بهداية الله إلى الصراط المستقيم ، ولا تحصل هدايته إلا بإعانته وتوحيده ، فقد انتظمتها سورة الفاتحة أحسن انتظام ، وتضمنتها أبلغ تضمن ، فمن أعطى الفاتحة حقها - علما وشهودا وحالا معرفة - علم أنه لا تصح له قراءتها على العبودية إلا بالتوبة النصوح ، فإن الهداية التامة إلى الصراط المستقيم لا تكون مع الجهل بالذنوب ، ولا مع الإصرار عليها ، فإن الأول جهل ينافي معرفة الهدى ، والثاني غي ينافي قصده وإرادته ، فلذلك لا تصح التوبة إلا بعد معرفة الذنب ، والاعتراف به ، وطلب التخلص من سوء عواقبه أولا وآخرا .

قال في المنازل : وهي أن تنظر في الذنب إلى ثلاثة أشياء : إلى انخلاعك من العصمة حين إتيانه ، وفرحك عند الظفر به ، وقعودك على الإصرار عن تداركه ، مع تيقنك نظر الحق إليك .

[ ص: 198 ] يحتمل أن يريد بالانخلاع عن العصمة انخلاعه عن اعتصامه بالله ، فإنه لو اعتصم بالله لما خرج عن هداية الطاعة ، قال الله تعالى ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم فلو كملت عصمته بالله لم يخذله أبدا ، قال الله تعالى واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير أي متى اعتصمتم به تولاكم ، ونصركم على أنفسكم وعلى الشيطان ، وهما العدوان اللذان لا يفارقان العبد ، وعداوتهما أضر من عداوة العدو الخارج ، فالنصر على هذا العدو أهم ، والعبد إليه أحوج ، وكمال النصرة على العدو بحسب كمال الاعتصام بالله .

وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى بعد هذا في حقيقة الاعتصام وأن الإيمان لا يقوم إلا به .

ويحتمل أن يريد الانخلاع من عصمة الله له ، وأنك إنما ارتكبت الذنب بعد انخلاعك من توبة عصمته لك ، فمتى عرف هذا الانخلاع وعظم خطره عنده ، واشتدت عليه مفارقته ، وعلم أن الهلك كل الهلك بعده ، وهو حقيقة الخذلان ، فما خلى الله بينك وبين الذنب إلا بعد أن خذلك ، وخلى بينك وبين نفسك ، ولو عصمك ووفقك لما وجد الذنب إليك سبيلا .

فقد أجمع العارفون بالله على أن الخذلان : أن يكلك الله إلى نفسك ، ويخلي بينك وبينها ، والتوفيق : أن لا يكلك الله إلى نفسك ، وله سبحانه في هذه التخلية - بينك وبين الذنب وخذلانك حتى واقعته - حكم وأسرار ، سنذكر بعضها .

وعلى الاحتمالين فترجع التوبة إلى اعتصامك به وعصمته لك .

قوله : وفرحك عند الظفر به .

الفرح بالمعصية دليل على شدة الرغبة فيها ، والجهل بقدر من عصاه ، والجهل بسوء عاقبتها وعظم خطرها ، ففرحه بها غطى عليه ذلك كله ، وفرحه بها أشد ضررا عليه من مواقعتها ، والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبدا ، ولا يكمل بها فرحه ، بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه ، ولكن سكر الشهوة يحجبه عن الشعور به ، ومتى خلى قلبه من هذا الحزن ، واشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه ، وليبك على موت قلبه ، فإنه لو كان حيا [ ص: 199 ] لأحزنه ارتكابه للذنب ، وغاظه وصعب عليه ، ولا يحس القلب بذلك ، فحيث لم يحس به فما لجرح بميت إيلام .

وهذه النكتة في الذنب قل من يهتدي إليها أو ينتبه لها ، وهي موضع مخوف جدا ، مترام إلى هلاك إن لم يتدارك بثلاثة أشياء : خوف من الموافاة عليه قبل التوبة ، وندم على ما فاته من الله بمخالفة أمره ، وتشمير للجد في استدراكه .

قوله : وقعودك على الإصرار عن تداركه .

الإصرار : هو الاستقرار على المخالفة ، والعزم على المعاودة ، وذلك ذنب آخر ، لعله أعظم من الذنب الأول بكثير ، وهذا من عقوبة الذنب أنه يوجب ذنبا أكبر منه ، ثم الثاني كذلك ، ثم الثالث كذلك ، حتى يستحكم الهلاك .

فالإصرار على المعصية معصية أخرى ، والقعود عن تدارك الفارط من المعصية إصرار ورضا بها ، وطمأنينة إليها ، وذلك علامة الهلاك ، وأشد من هذا كله المجاهرة بالذنب مع تيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه ، فإن آمن بنظره إليه وأقدم على المجاهرة فعظيم ، وإن لم يؤمن بنظره إليه واطلاعه عليه فكفر ، وانسلاخ من الإسلام بالكلية ، فهو دائر بين الأمرين : بين قلة الحياء ومجاهرة نظر الله إليه ، وبين الكفر والانسلاخ من الدين ، فلذلك يشترط في صحة التوبة تيقنه أن الله كان ناظرا - ولا يزال - إليه مطلعا عليه ، يراه جهرة عند مواقعة الذنب ، لأن التوبة لا تصح إلا من مسلم ، إلا أن يكون كافرا بنظر الله إليه جاحدا له ، فتوبته دخوله في الإسلام ، وإقراره بصفات الرب جل جلاله .

قال : وشرائط التوبة ثلاثة : الندم ، والإقلاع ، والاعتذار .

فحقيقة التوبة : هي الندم على ما سلف منه في الماضي ، والإقلاع عنه في الحال ، والعزم على أن لا يعاوده في المستقبل .

والثلاثة تجتمع في الوقت الذي تقع فيه التوبة ، فإنه في ذلك الوقت يندم ، ويقلع ، ويعزم .

[ ص: 200 ] فحينئذ يرجع إلى العبودية التي خلق لها ، وهذا الرجوع هو حقيقة التوبة .

ولما كان متوقفا على تلك الثلاثة جعلت شرائط له .

فأما الندم : فإنه لا تتحقق التوبة إلا به ، إذ من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضاه به ، وإصراره عليه ، وفي المسند " الندم توبة " .

وأما الإقلاع : فتستحيل التوبة مع مباشرة الذنب .

وأما الاعتذار : ففيه إشكال ، فإن من الناس من يقول : من تمام التوبة ترك الاعتذار ، فإن الاعتذار محاجة عن الجناية ، وترك الاعتذار اعتراف بها ، ولا تصح التوبة إلا بعد الاعتراف ، وفي ذلك يقول بعض الشعراء لرئيسه وقد عتب عليه في شيء :


وما قابلت عتبك باعتذار ولكني أقول كما تقول     وأطرق باب عفوك بانكسار
ويحكم بيننا الخلق الجميل

فلما سمع الرئيس مقالته قام وركب إليه من فوره ، وأزال عتبه عليه ، فتمام الاعتراف ترك الاعتذار ، بأن يكون في قلبه ولسانه : اللهم لا براءة لي من ذنب فأعتذر ، ولا قوة لي فأنتصر ، ولكني مذنب مستغفر ، اللهم لا عذر لي ، وإنما هو محض حقك ، ومحض جنايتي ، فإن عفوت وإلا فالحق لك .

والذي ظهر لي من كلام صاحب المنازل أنه أراد بالاعتذار إظهار الضعف والمسكنة ، وغلبة العدو ، وقوة سلطان النفس ، وأنه لم يكن مني ما كان عن استهانة بحقك ، ولا جهلا به ، ولا إنكارا لاطلاعك ، ولا استهانة بوعيدك ، وإنما كان من غلبة الهوى ، وضعف القوة عن مقاومة مرض الشهوة ، وطمعا في مغفرتك واتكالا على عفوك ، وحسن ظن بك ، ورجاء لكرمك ، وطمعا في سعة حلمك ورحمتك ، وغرني بك الغرور ، والنفس الأمارة بالسوء ، وسترك المرخى علي ، وأعانني جهلي ، ولا سبيل إلى الاعتصام لي إلا بك ، ولا معونة على طاعتك إلا بتوفيقك ، ونحو هذا من الكلام المتضمن للاستعطاف والتذلل والافتقار ، والاعتراف بالعجز ، والإقرار بالعبودية .

[ ص: 201 ] فهذا من تمام التوبة ، وإنما يسلكه الأكياس المتملقون لربهم عز وجل ، والله يحب من عبده أن يتملق له .

وفي الحديث " تملقوا لله " وفي الصحيح لا أحد أحب إليه العذر من الله وإن كان معنى ذلك الإعذار ، كما قال في آخر الحديث " من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين " وقال تعالى فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا فإنه من تمام عدله وإحسانه أن أعذر إلى عباده ، وأن لا يؤاخذ ظالمهم إلا بعد كمال الإعذار وإقامة الحجة عليه ، فهو أيضا يحب من عبده أن يعتذر إليه ، ويتنصل إليه من ذنبه ، وفي الحديث " من اعتذر إلى الله قبل الله عذره " فهذا هو الاعتذار المحمود النافع .

وأما الاعتذار بالقدر فهو مخاصمة لله ، واحتجاج من العبد على الرب ، وحمل لذنبه على الأقدار ، وهذا فعل خصماء الله ، كما قال بعض شيوخهم في قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة قال : أتدرون ما المراد بهذه الآية ؟ قالوا : ما المراد بها ؟ قال : إقامة أعذار الخليقة .

وكذب هذا الجاهل بالله وكلامه ، وإنما المراد بها التزهيد في هذا الفاني الذاهب ، والترغيب في الباقي الدائم ، والإزراء بمن آثر هذا المزين واتبعه ، بمنزلة الصبي الذي يزين له ما يلعب به ، فيهش إليه ويتحرك له ، مع أنه لم يذكر فاعل التزيين ، فلم يقل زينا للناس ، والله تعالى يضيف تزيين الدنيا والمعاصي إلى الشياطين ، كما قال تعالى وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون وقال وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم وفي الحديث بعثت هاديا وداعيا ، وليس إلي من الهداية شيء ، وبعث إبليس مغويا ومزينا ، وليس إليه من الضلالة شيء ولا يناقض هذا قوله تعالى [ ص: 202 ] كذلك زينا لكل أمة عملهم فإن إضافة التزيين إليه قضاء وقدرا ، وإلى الشيطان تسببا ، مع أنه تزيينه تعالى عقوبة لهم على ركونهم إلى ما زينه الشيطان لهم ، فمن عقوبة السيئة السيئة بعدها ، ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها .

والمقصود أن الاحتجاج بالقدر مناف للتوبة ، وليس هو من الاعتذار في شيء ، وفي بعض الآثار " إن العبد إذا أذنب ، فقال : يا رب ، هذا قضاؤك ، وأنت قدرت علي ، وأنت حكمت علي ، وأنت كتبت علي ، يقول الله عز وجل : وأنت عملت ، وأنت كسبت ، وأنت أردت واجتهدت ، وأنا أعاقبك عليه ، وإذا قال : يا رب ، أنا ظلمت ، وأنا أخطأت ، وأنا اعتديت ، وأنا فعلت ، يقول الله عز وجل : وأنا قدرت عليك وقضيت وكتبت ، وأنا أغفر لك ، وإذا عمل حسنة ، فقال : يا رب أنا عملتها ، وأنا تصدقت ، وأنا صليت ، وأنا أطعمت ، يقول الله عز وجل : وأنا أعنتك ، وأنا وفقتك ، وإذا قال : يا رب أنت أعنتني ووفقتني ، وأنت مننت علي ، يقول الله : وأنت عملتها ، وأنت أردتها ، وأنت كسبتها " .

فالاعتذار اعتذاران : اعتذار ينافي الاعتراف ، فذلك مناف للتوبة ، واعتذار يقرر الاعتراف ، فذلك من تمام التوبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية