مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قال صاحب المنازل : وحقائق التوبة ثلاثة أشياء : تعظيم الجناية ، واتهام التوبة ، وطلب أعذار الخليقة .

يريد بالحقائق : ما يتحقق به الشيء ، وتتبين به صحته وثبوته ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لحارثة إن لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ .

[ ص: 203 ] فأما تعظيم الجناية فإنه إذا استهان بها لم يندم عليها ، وعلى قدر تعظيمها يكون ندمه على ارتكابها ، فإن من استهان بإضاعة فلس - مثلا - لم يندم على إضاعته ، فإذا علم أنه دينار اشتد ندمه ، وعظمت إضاعته عنده .

وتعظيم الجناية يصدر عن ثلاثة أشياء : تعظيم الأمر ، وتعظيم الآمر ، والتصديق بالجزاء .

وأما اتهام التوبة فلأنها حق عليه ، لا يتيقن أنه أدى هذا الحق على الوجه المطلوب منه ، الذي ينبغي له أن يؤديه عليه ، فيخاف أنه ما وفاها حقها ، وأنها لم تقبل منه ، وأنه لم يبذل جهده في صحتها ، وأنها توبة علة وهو لا يشعر بها ، كتوبة أرباب الحوائج والإفلاس ، والمحافظين على حاجاتهم ومنازلهم بين الناس ، أو أنه تاب محافظة على حاله ، فتاب للحال لا خوفا من ذي الجلال ، أو أنه تاب طلبا للراحة من الكد في تحصيل الذنب ، أو اتقاء ما يخافه على عرضه وماله ومنصبه ، أو لضعف داعي المعصية في قلبه ، وخمود نار شهوته ، أو لمنافاة المعصية لما يطلبه من العلم والرزق ، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في كون التوبة خوفا من الله ، وتعظيما له ولحرماته ، وإجلالا له ، وخشية من سقوط المنزلة عنده ، وعن البعد والطرد عنه ، والحجاب عن رؤية وجهه في الدار الآخرة ، فهذه التوبة لون ، وتوبة أصحاب العلل لون .

ومن اتهام التوبة أيضا : ضعف العزيمة ، والتفات القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة ، وتذكر حلاوة مواقعته ، فربما تنفس ، وربما هاج هائجه .

ومن اتهام التوبة : طمأنينته ووثوقه من نفسه بأنه قد تاب ، حتى كأنه قد أعطي منشورا بالأمان ، فهذا من علامات التهمة .

ومن علاماتها : جمود العين ، واستمرار الغفلة ، وأن لا يستحدث بعد التوبة أعمالا صالحة لم تكن له قبل الخطيئة .

فالتوبة المقبولة الصحيحة لها علامات .

منها : أن يكون بعد التوبة خيرا مما كان قبلها .

ومنها : أنه لا يزال الخوف مصاحبا له لا يأمن مكر الله طرفة عين ، فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون فهناك يزول الخوف .

[ ص: 204 ] ومنها : انخلاع قلبه ، وتقطعه ندما وخوفا ، وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها ، وهذا تأويل ابن عيينة لقوله تعالى لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم قال : تقطعها بالتوبة ، ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه ، وهذا هو تقطعه ، وهذا حقيقة التوبة ، لأنه يتقطع قلبه حسرة على ما فرط منه ، وخوفا من سوء عاقبته ، فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرة وخوفا ، تقطع في الآخرة إذا حقت الحقائق ، وعاين ثواب المطيعين ، وعقاب العاصين ، فلا بد من تقطع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة .

ومن موجبات التوبة الصحيحة أيضا : كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء ، ولا تكون لغير المذنب ، لا تحصل بجوع ، ولا رياضة ، ولا حب مجرد ، وإنما هي أمر وراء هذا كله ، تكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة ، قد أحاطت به من جميع جهاته ، وألقته بين يدي ربه طريحا ذليلا خاشعا ، كحال عبد جان آبق من سيده ، فأخذ فأحضر بين يديه ، ولم يجد من ينجيه من سطوته ، ولم يجد منه بدا ولا عنه غناء ، ولا منه مهربا ، وعلم أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه في رضاه عنه ، وقد علم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته ، هذا مع حبه لسيده ، وشدة حاجته إليه ، وعلمه بضعفه وعجزه وقوة سيده ، وذله وعز سيده .

فيجتمع من هذه الأحوال كسرة وذلة وخضوع ، ما أنفعها للعبد وما أجدى عائدتها عليه ! وما أعظم جبره بها ، وما أقربه بها من سيده ! فليس شيء أحب إلى سيده من هذه الكسرة ، والخضوع والتذلل ، والإخبات ، والانطراح بين يديه ، والاستسلام له ، فلله ما أحلى قوله في هذه الحال : أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني ، أسألك بقوتك وضعفي ، وبغناك عني وفقري إليك ، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك ، عبيدك سواي كثير ، وليس لي سيد سواك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، سؤال من خضعت [ ص: 205 ] لك رقبته ، ورغم لك أنفه ، وفاضت لك عيناه ، وذل لك قلبه .


يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره     لا يجبر الناس عظما أنت كاسره
ولا يهيضون عظما أنت جابره

فهذا وأمثاله من آثار التوبة المقبولة ، فمن لم يجد ذلك في قلبه فليتهم توبته وليرجع إلى تصحيحها ، فما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة ، وما أسهلها باللسان والدعوى ! وما عالج الصادق بشيء أشق عليه من التوبة الخالصة الصادقة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

وأكثر الناس من المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذورات في كبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها ، ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب ليتوبوا منها ، فعندهم - من الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم ، وصولة طاعاتهم ، ومنتهم على الخلق بلسان الحال ، واقتضاء بواطنهم لتعظيم الخلق لهم على طاعاتهم ، اقتضاء لا يخفى على أحد غيرهم ، وتوابع ذلك - ما هو أبغض إلى الله ، وأبعد لهم عن بابه من كبائر أولئك ، فإن تدارك الله أحدهم بقاذورة أو كبيرة يوقعه فيها ليكسر بها نفسه ، ويعرفه قدره ، ويذله بها ، ويخرج بها صولة الطاعة من قلبه ، فهي رحمة في حقه ، كما أنه إذا تدارك أصحاب الكبائر بتوبة نصوح ، وإقبال بقلوبهم إليه ، فهو رحمة في حقهم ، وإلا فكلاهما على خطر .

التالي السابق


الخدمات العلمية