مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال صاحب المنازل : ولطائف أسرار التوبة ثلاثة أشياء ، أولها : أن ينظر الجناية والقضية ، فيعرف مراد الله فيها ، إذ خلاك وإتيانها ، فإن الله عز وجل إنما خلى العبد والذنب لأجل معنيين :

أحدهما : أن يعرف عزته في قضائه ، وبره في ستره ، وحلمه في إمهال راكبه ، وكرمه في قبول العذر منه ، وفضله في مغفرته .

الثاني : أن يقيم على عبده حجة عدله ، فيعاقبه على ذنبه بحجته .

اعلم أن صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة فله نظر إلى خمسة أمور :

[ ص: 222 ] أحدها : أن ينظر إلى أمر الله ونهيه ، فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة ، والإقرار على نفسه بالذنب .

الثاني : أن ينظر إلى الوعد والوعيد ، فيحدث له ذلك خوفا وخشية ، تحمله على التوبة .

الثالث : أن ينظر إلى تمكين الله له منها ، وتخليته بينه وبينها ، وتقديرها عليه ، وأنه لو شاء لعصمه منها ، فيحدث له ذلك أنواعا من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته ، وحكمته ، ورحمته ، ومغفرته وعفوه ، وحلمه وكرمه ، وتوجب له هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء ، لا تحصل بدون لوازمها البتة ، ويعلم ارتباط الخلق والأمر ، والجزاء والوعد والوعيد بأسمائه وصفاته ، وأن ذلك موجب الأسماء والصفات ، وأثرها في الوجود ، وأن كل اسم وصفة مقتض لأثره وموجبه ، متعلق به لا بد منه .

وهذا المشهد يطلعه على رياض مونقة من المعارف والإيمان ، وأسرار القدر والحكمة يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم .

فمن بعضها : ما ذكره الشيخ أن يعرف العبد عزته في قضائه ، وهو أنه سبحانه العزيز الذي يقضي بما يشاء ، وأنه لكمال عزته حكم على العبد وقضى عليه ، بأن قلب قلبه وصرف إرادته على ما يشاء ، وحال بين العبد وقلبه ، وجعله مريدا شائيا لما شاء منه العزيز الحكيم ، وهذا من كمال العزة ، إذ لا يقدر على ذلك إلا الله ، وغاية المخلوق أن يتصرف في بدنك وظاهرك ، وأما جعلك مريدا شائيا لما يشاؤه منك ويريده فلا يقدر عليه إلا ذو العزة الباهرة .

فإذا عرف العبد عز سيده ولاحظه بقلبه ، وتمكن شهوده منه ، كان الاشتغال به عن ذل المعصية أولى به وأنفع له ، لأنه يصير مع الله لا مع نفسه .

ومن معرفة عزته في قضائه : أن يعرف أنه مدبر مقهور ، ناصيته بيد غيره ، لا عصمة له إلا بعصمته ، ولا توفيق له إلا بمعونته ، فهو ذليل حقير ، في قبضة عزيز حميد .

ومن شهود عزته أيضا في قضائه : أن يشهد أن الكمال والحمد ، والغناء التام ، والعزة كلها لله ، وأن العبد نفسه أولى بالتقصير والذم ، والعيب والظلم والحاجة ، وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ، ازداد شهوده لعزة الله وكماله ، وحمده وغناه ، وكذلك بالعكس ، فنقص الذنب وذلته يطلعه على مشهد العزة .

ومنها : أن العبد لا يريد معصية مولاه من حيث هي معصية ، فإذا شهد جريان [ ص: 223 ] الحكم ، وجعله فاعلا لما هو غير مختار له ، مريد بإرادته ومشيئته واختياره ، فكأنه مختار غير مختار ، مريد غير مريد ، شاء غير شاء ، فهذا يشهد عزة الله وعظمته ، وكمال قدرته .

ومنها : أن يعرف بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية ، مع كمال رؤيته له ، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه ، وهذا من كمال بره ، ومن أسمائه : البر ، وهذا البر من سيده كان عن به كمال غناه عنه ، وكمال فقر العبد إليه ، فيشتغل بمطالعة هذه المنة ، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم ، فيذهل عن ذكر الخطيئة ، فيبقى مع الله سبحانه ، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته ، وشهود ذل معصيته ، فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى ، والمقصد الأسنى .

ولا يوجب هذا نسيان الخطيئة مطلقا ، بل في هذه الحال ، فإذا فقدها فليرجع إلى مطالعة الخطيئة ، وذكر الجناية ، ولكل وقت ومقام عبودية تليق به .

ومنها : شهود حلم الله سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة ، ولو شاء لعاجله بالعقوبة ، ولكنه الحليم الذي لا يعجل ، فيحدث له ذلك معرفة ربه سبحانه باسمه الحليم ، ومشاهدة صفة الحلم ، والتعبد بهذا الاسم ، والحكمة والمصلحة الحاصلة من ذلك بتوسط الذنب أحب إلى الله ، وأصلح للعبد ، وأنفع من فوتها ، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع .

ومنها : معرفة العبد كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدم من الاعتذار ، لا بالقدر ، فإنه مخاصمة ومحاجة ، كما تقدم ، فيقبل عذره بكرمه وجوده ، فيوجب له ذلك اشتغالا بذكره وشكره ، ومحبة أخرى لم تكن حاصلة له قبل ذلك ، فإن محبتك لمن شكرك على إحسانك وجازاك به ، ثم غفر لك إساءتك ولم يؤاخذك بها أضعاف محبتك على شكر الإحسان وحده ، والواقع شاهد بذلك ، فعبودية التوبة بعد الذنب لون ، وهذا لون آخر .

ومنها : أن يشهد فضله في مغفرته ، فإن المغفرة فضل من الله ، وإلا فلو أخذك بمحض حقه ، كان عادلا محمودا ، وإنما عفوه بفضله لا باستحقاقك ، فيوجب لك ذلك أيضا شكرا له ومحبة ، وإنابة إليه ، وفرحا وابتهاجا به ، ومعرفة له باسمه الغفار ومشاهدة لهذه الصفة ، وتعبدا بمقتضاها ، وذلك أكمل في العبودية ، والمحبة والمعرفة .

ومنها : أن يكمل لعبده مراتب الذل والخضوع والانكسار بين يديه ، والافتقار إليه ، [ ص: 224 ] فإن النفس فيها مضاهاة للربوبية ، ولو قدرت لقالت كقول فرعون ، ولكنه قدر فأظهر ، وغيره عجز فأضمر ، وإنما يخلصها من هذه المضاهاة ذل العبودية ، وهو أربع مراتب :

المرتبة الأولى : مشتركة بين الخلق ، وهي ذل الحاجة والفقر إلى الله ، فأهل السماوات والأرض جميعا محتاجون إليه ، فقراء إليه ، وهو وحده الغني عنهم ، وكل أهل السماوات والأرض يسألونه ، وهو لا يسأل أحدا .

المرتبة الثانية : ذل الطاعة والعبودية ، وهو ذل الاختيار ، وهذا خاص بأهل طاعته ، وهو سر العبودية .

المرتبة الثالثة : ذل المحبة ، فإن المحب ذليل بالذات ، وعلى قدر محبته له يكون ذله ، فالمحبة أسست على الذلة للمحبوب ، كما قيل :


اخضع وذل لمن تحب فليس في حكم الهوى أنف يشال ويعقد

وقال آخر :


مساكين أهل الحب حتى قبورهم     عليها تراب الذل بين المقابر

المرتبة الرابعة : ذل المعصية والجناية .

فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم ، إذ يذل له خوفا وخشية ، ومحبة وإنابة ، وطاعة ، وفقرا وفاقة .

وحقيقة ذلك هو الفقر الذي يشير إليه القوم ، وهذا المعنى أجل من أن يسمى بالفقر ، بل هو لب العبودية وسرها ، وحصوله أنفع شيء للعبد ، وأحب شيء إلى الله .

فلا بد من تقدير لوازمه من أسباب الضعف والحاجة ، وأسباب العبودية والطاعة ، وأسباب المحبة والإنابة ، وأسباب المعصية والمخالفة ، إذ وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع ، والغاية من تقدير عدم هذا الملزوم ولازمه ، مصلحة وجوده خير من مصلحة فوته ، ومفسدة فوته أكبر من مفسدة وجوده ، والحكمة مبناها على دفع أعظم المفسدتين [ ص: 225 ] باحتمال أدناهما ، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، وقد فتح لك الباب ، فإن كنت من أهل المعرفة فادخل ، وإلا فرد الباب وارجع بسلام .

ومنها : أن أسماءه الحسنى تقتضي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبباتها ، فاسم السميع ، البصير يقتضي مسموعا ومبصرا ، واسم الرزاق يقتضي مرزوقا ، واسم الرحيم يقتضي مرحوما ، وكذلك أسماء الغفور ، والعفو ، والتواب ، والحليم يقتضي من يغفر له ، ويتوب عليه ، ويعفو عنه ، ويحلم ، ويستحيل تعطيل هذه الأسماء والصفات ، إذ هي أسماء حسنى وصفات كمال ، ونعوت جلال ، وأفعال حكمة وإحسان وجود ، فلا بد من ظهور آثارها في العالم ، وقد أشار إلى هذا أعلم الخلق بالله ، صلوات الله وسلامه عليه ، حيث يقول : لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ، ثم يستغفرون فيغفر لهم .

وأنت إذا فرضت الحيوان بجملته معدوما ، فمن يرزق الرزاق سبحانه ؟ وإذا فرضت المعصية والخطيئة منتفية من العالم ، فلمن يغفر ؟ وعمن يعفو ؟ وعلى من يتوب ويحلم ؟ وإذا فرضت الفاقات كلها قد سدت ، والعبيد أغنياء معافون ، فأين السؤال والتضرع والابتهال ؟ والإجابة وشهود الفضل والمنة ، والتخصيص بالإنعام والإكرام ؟

فسبحان من تعرف إلى خلقه بجميع أنواع التعرفات ، ودلهم عليه بأنواع الدلالات ، وفتح لهم إليه جميع الطرقات ، ثم نصب إليه الصراط المستقيم ، وعرفهم به ودلهم عليه ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم .

ومنها : السر الأعظم ، الذي لا تقتحمه العبارة ، ولا تجسر عليه الإشارة ، ولا ينادي عليه منادي الإيمان على رءوس الأشهاد ، بل شهدته قلوب خواص العباد ، فازدادت به معرفة لربها ومحبة له ، وطمأنينة به وشوقا إليه ، ولهجا بذكره ، وشهودا لبره ، ولطفه وكرمه وإحسانه ، ومطالعة لسر العبودية ، وإشرافا على حقيقة الإلهية ، وهو ما ثبت [ ص: 226 ] في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لله أفرح بتوبة عبده - حين يتوب إليه - من أحدكم ، كان على راحلة بأرض فلاة ، فانفلتت منه ، وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ، قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ، ثم قال - من شدة الفرح - اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح هذا لفظ مسلم .

وفي الحديث من قواعد العلم : أن اللفظ الذي يجري على لسان العبد خطأ من فرح شديد ، أو غيظ شديد ، ونحوه ، لا يؤاخذ به ، ولهذا لم يكن هذا كافرا بقوله : أنت عبدي وأنا ربك .

ومعلوم أن تأثير الغضب في عدم القصد يصل إلى هذه الحال ، أو أعظم منها ، فلا ينبغي مؤاخذة الغضبان بما صدر منه في حال شدة غضبه من نحو هذا الكلام ، ولا يقع طلاقه بذلك ، ولا ردته ، وقد نص الإمام أحمد على تفسير الإغلاق في قوله صلى الله عليه وسلم لا طلاق في إغلاق بأنه الغضب ، وفسره به غير واحد من الأئمة ، وفسروه بالإكراه والجنون .

قال شيخنا : وهو يعم هذا كله ، وهو من الغلق ، لانغلاق قصد المتكلم عليه ، فكأنه لم ينفتح قلبه لمعنى ما قاله .

والقصد : أن هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته ، وما يليق بعز جلاله .

وقد كان الأولى بنا طي الكلام فيه إلى ما هو اللائق بأفهام بني الزمان وعلومهم ، ونهاية أقدامهم من المعرفة ، وضعف عقولهم عن احتماله .

غير أنا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها ، ومن هو عارف بقدرها ، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفا بها ، فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه .

[ ص: 227 ] فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله ، وشرفه ، وخلقه لنفسه ، وخلق كل شيء له ، وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره ، وسخر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما ، حتى ملائكته - الذين هم أهل قربه - استخدمهم له ، وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته ، وظعنه وإقامته ، وأنزل إليه وعليه كتبه ، وأرسله وأرسل إليه ، وخاطبه وكلمه منه إليه ، واتخذ منهم الخليل والكليم ، والأولياء والخواص والأحبار ، وجعلهم معدن أسراره ، ومحل حكمته ، وموضع حبه ، وخلق لهم الجنة والنار ، وخلق الأمر ، والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني ، فإنه خلاصة الخلق ، وهو المقصود بالأمر والنهي ، وعليه الثواب والعقاب .

فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات ، وقد خلق أباه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأظهر فضله على الملائكة فمن دونهم من جميع المخلوقات ، وطرد إبليس عن قربه ، وأبعده عن بابه ، إذ لم يسجد له مع الساجدين ، واتخذه عدوا له .

فالمؤمن من نوع الإنسان خير البرية على الإطلاق ، وخيرة الله من العالمين ، فإنه خلقه ليتم نعمته عليه ، وليتواتر إحسانه إليه ، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته ، ولم يخطر على باله ولم يشعر به ، ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظاهرة العاجلة والآجلة ، التي لا تنال إلا بمحبته ، ولا تنال محبته إلا بطاعته ، وإيثاره على ما سواه ، فاتخذه محبوبا له ، وأعد له أفضل ما يعده محب غني قادر جواد لمحبوبه إذا قدم عليه ، وعهد إليه عهدا تقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه ، وأعلمه في عهده ما يقربه إليه ، ويزيده محبة له وكرامة عليه ، وما يبعده منه ويسخطه عليه ، ويسقطه من عينه .

وللمحبوب عدو ، هو أبغض خلقه إليه ، قد جاهره بالعداوة ، وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له ، دون وليهم ومعبودهم الحق ، واستقطع عباده ، واتخذ منهم حزبا ظاهروه ووالوه على ربهم ، وكانوا أعداء له مع هذا العدو ، يدعون إلى سخطه ، ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته ، ويسبونه ويكذبونه ، ويفتنون أولياءه ، ويؤذونهم بأنواع الأذى ، ويجهدون على إعدامهم من الوجود وإقامة الدولة لهم ، ومحو كل ما يحبه الله ويرضاه ، وتبديله بكل ما يسخطه ويكرهه ، فعرفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم وما لهم ، وحذره موالاتهم والدخول في زمرتهم والكون معهم .

وأخبره في عهده أنه أجود الأجودين ، وأكرم الأكرمين ، وأرحم الراحمين ، وأنه سبقت رحمته غضبه ، وحلمه عقوبته ، وعفوه مؤاخذته ، وأنه قد أفاض على خلقه النعمة ، [ ص: 228 ] وكتب على نفسه الرحمة ، وأنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر ، وأن الفضل كله بيده ، والخير كله منه ، والجود كله له ، وأحب ما إليه أن يجود على عباده ويوسعهم فضلا ، ويغمرهم إحسانا وجودا ، ويتم عليهم نعمته ، ويضاعف لديهم منته ، ويتعرف إليهم بأوصافه وأسمائه ، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه .

فهو الجواد لذاته ، وجود كل جواد خلقه الله ، ويخلقه أبدا أقل من ذرة بالقياس إلى جوده ، فليس الجواد على الإطلاق إلا هو ، وجود كل جواد فمن جوده ، ومحبته للجود والإعطاء والإحسان ، والبر والإنعام والإفضال فوق ما يخطر ببال الخلق ، أو يدور في أوهامهم ، وفرحه بعطائه وجوده وإفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه ويأخذه ، أحوج ما هو إليه أعظم ما كان قدرا ، فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها ، فما الظن بفرح المعطي ؟ ففرح المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فرح هذا بما يأخذه ، ولله المثل الأعلى ، إذ هذا شأن الجواد من الخلق ، فإنه يحصل له من الفرح والسرور ، والابتهاج واللذة بعطائه وجوده فوق ما يحصل لمن يعطيه ، ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه ، عن لذة المعطي ، وابتهاجه وسروره ، هذا مع كمال حاجته إلى ما يعطيه وفقره إليه ، وعدم وثوقه باستخلاف مثله ، وخوف الحاجة إليه عند ذهابه ، والتعرض لذل الاستعانة بنظيره ومن هو دونه ، ونفسه قد طبعت على الحرص والشح .

فما الظن بمن تقدس وتنزه عن ذلك كله ؟ ولو أن أهل سماواته وأرضه ، وأول خلقه وآخرهم ، وإنسهم وجنهم ، ورطبهم ويابسهم ، قاموا في صعيد واحد فسألوه ، فأعطى كل واحد ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة .

وهو الجواد لذاته ، كما أنه الحي لذاته ، العليم لذاته ، السميع البصير لذاته ، فجوده العالي من لوازم ذاته ، والعفو أحب إليه من الانتقام ، والرحمة أحب إليه من العقوبة ، والفضل أحب إليه من العدل ، والعطاء أحب إليه من المنع .

فإذا تعرض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه ، وأعد له أنواع كرامته ، وفضله على غيره ، وجعله محل معرفته ، وأنزل إليه كتابه ، وأرسل إليه رسوله ، واعتنى بأمره ولم يهمله ، ولم يتركه سدى ، فتعرض لغضبه ، وارتكب مساخطه وما يكرهه وأبق منه ، ووالى عدوه وظاهره عليه ، وتحيز إليه ، وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه التي هي أحب شيء [ ص: 229 ] إليه ، وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام فقد استدعى من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر ، وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه ، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه ، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطائه ، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه ، وخلاف ما هو من لوازم ذاته من الجود والإحسان .

فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة ، إذ انقلب آبقا شاردا ، رادا لكرامته ، مائلا عنه إلى عدوه ، مع شدة حاجته إليه ، وعدم استغنائه عنه طرفة عين .

فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ، ناسيا لسيده ، منهمكا في موافقة عدوه ، قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله إذ عرضت له فكرة فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه ، وعلم أنه لا بد له منه ، وأن مصيره إليه ، وعرضه عليه ، وأنه إن لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه على أسوأ الأحوال ، ففر إلى سيده من بلد عدوه ، وجد في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه ، فوضع خده على عتبة بابه ، وتوسد ثرى أعتابه ، متذللا متضرعا ، خاشعا باكيا آسفا ، يتملق سيده ويسترحمه ، ويستعطفه ويعتذر إليه ، قد ألقى بيده إليه ، واستسلم له وأعطاه قياده ، وألقى إليه زمامه ، فعلم سيده ما في قلبه ، فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه ، ومكان الشدة عليه رحمة به ، وأبدله بالعقوبة عفوا ، وبالمنع عطاء ، وبالمؤاخذة حلما ، فاستدعى بالتوبة والرجوع من سيده ما هو أهله ، وما هو موجب أسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، فكيف يكون فرح سيده به ؟ وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعا واختيارا ، وراجع ما يحبه سيده منه برضاه ، وفتح طريق البر والإحسان والجود ، التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة ؟ .

وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين أنه حصل له شرود وإباق من سيده ، فرأى في بعض السكك بابا قد فتح ، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي ، وأمه خلفه تطرده ، حتى خرج ، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت ، فذهب الصبي غير بعيد ، ثم وقف مفكرا ، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ، ولا من يئويه غير والدته ، فرجع مكسور القلب حزينا ، فوجد الباب مرتجا ، فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام ، فخرجت أمه ، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه ، والتزمته تقبله وتبكي ، وتقول : يا ولدي ، أين تذهب عني ؟ ومن يئويك سواي ؟ ألم أقل لك : لا تخالفني ، ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك ، والشفقة عليك ، وإرادتي الخير لك ؟ ثم أخذته ودخلت .

[ ص: 230 ] فتأمل قول الأم : لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة .

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء ؟

فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه ، فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به .

فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة ، بعد اليأس منها .

ووراء هذا ما تجفو عنه العبارة ، وتدق عن إدراكه الأذهان .

وإياك وطريقة التعطيل والتمثيل ، فإن كلا منهما منزل ذميم ، ومرتع على علاته وخيم ، ولا يحل لأحدهما أن يجد روائح هذا الأمر ونفسه ، لأن زكام التعطيل والتمثيل مفسد لحاسة الشم ، كما هو مفسد لحاسة الذوق ، فلا يذوق طعم الإيمان ، ولا يجد ريحه ، والمحروم كل المحروم من عرض عليه الغنى والخير فلم يقبله ، فلا مانع لما أعطى الله ، ولا معطي لما منع ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية