بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما إذا قتل الصيد تسببا فإن كان متعديا في التسبب يضمن وإلا فلا .

بيان ذلك أنه إذا نصب شبكة فتعلق به صيد ومات أو حفر حفيرة للصيد فوقع فيها فعطب يضمن ; لأنه متعد في التسبب .

ولو ضرب فسطاطا لنفسه فتعلق به صيد فمات أو حفر حفيرة للماء أو للخبز فوقع فيها صيد فمات لا شيء عليه ; لأن ذلك مباح له فلم يكن متعديا في التسبب ، وهذا كمن حفر بئرا على قارعة الطريق فوقع فيها إنسان أو بهيمة ومات يضمن .

ولو كان الحفر في دار نفسه فوقع فيها إنسان لا يضمن ; لأنه في الأول متعديا بالتسبب وفي الثاني لا ، كذا هذا ولو أعان محرم محرما أو حلالا على صيد ضمن ; لأن الإعانة على الصيد تسبب إلى قتله ، وهو متعد في هذا التسبب ; لأنه تعاون على الإثم والعدوان وقد قال الله تعالى { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ولو دل عليه أو أشار إليه ، فإن كان المدلول يرى الصيد أو يعلم به من غير دلالة أو إشارة فلا شيء على الدال ; لأنه إذا كان يراه أو يعلم به من غير دلالته .

فلا أثر لدلالته في تفويت الأمن على الصيد فلم تقع الدلالة تسببا إلا أنه يكره ذلك ، فقتله [ ص: 204 ] بدلالته ; لأنه نوع تحريض على اصطياده وإن رآه المدلول بدلالته فقتله فعليه الجزاء عند أصحابنا .

وقال الشافعي : ( لا جزاء عليه ) وجه قوله أن وجوب الجزاء متعلق بقتل الصيد ولم يوجد ، ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { الدال على الشيء كفاعله } وروي { الدال على الخير كفاعله والدال على الشر كفاعله } فظاهر الحديث يقتضي أن يكون للدلالة حكم الفعل إلا ما خص بدليل .

وروي { أن أبا قتادة رضي الله عنه شد على حمار وحش وهو حلال فقتله وأصحابه محرمون فمنهم من أكل ومنهم من أبى فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : صلى الله عليه وسلم هل أشرتم ؟ هل أعنتم ؟ فقالوا : لا فقال : كلوا إذا } فلولا أن الحكم يختلف بالإعانة والإشارة وإلا لم يكن للفحص عن ذلك معنى ، ودل ذلك على حرمة الإعانة والإشارة ، وذا يدل على وجوب الجزاء وروي أن رجلا سأل عمر رضي الله عنه فقال إني أشرت إلى ظبية فقتلها صاحبي فسأل عمر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى عليه شاة فقال عمر : رضي الله عنه وأنا أرى مثل ذلك وروي أن رجلا أشار إلى بيضة نعامة فكسرها صاحبه فسأل عن ذلك عليا وابن عباس رضي الله عنهما فحكما عليه بالقيمة .

وكذا حكم عمر وعبد الرحمن رضي الله عنهما محمول على القيمة ; ولأن المحرم قد أمن الصيد بإحرامه ، والدلالة تزيل الأمن لأن أمن الصيد في حال قدرته ويقظته يكون بتوحشه عن الناس وفي حال عجزه ونومه يكون باختفائه عن الناس ، والدلالة تزيل الاختفاء فيزول الأمن ، فكانت الدلالة في إزالة الأمن كالاصطياد ; ولأن الإعانة والدلالة والإشارة تسبب إلى القتل ، وهو متعد في هذا التسبب ; لكونه مزيلا للأمن وأنه محظور الإحرام فأشبه نصب الشبكة ونحو ذلك ; ولأنه لما أمن الصيد عن التعرض بعقد الإحرام والتزم ذلك صار به الصيد كالأمانة في يده فأشبه المودع إذا دل سارقا على سرقة الوديعة .

ولو استعار محرم من محرم سكينا ; ليذبح به صيدا فأعاره إياه فذبح به الصيد فلا جزاء على صاحب السكين كذا ذكر محمد في الأصل من المشايخ من فصل في ذلك تفصيلا فقال : إن كان المستعير يتوصل إلى قتل الصيد بغيره لا يضمن ، وإن كان لا يتوصل إليه إلا بذلك السكين يضمن المعير ; لأنه يصير كالدال ، ونظير هذا ما قالوا : لو أن محرما رأى صيدا وله قوس أو سلاح يقتل به ولم يعرف أن ذلك في أي موضع فدله محرم على سكينته أو على قوسه فأخذه فقتله به أنه إن كان يجد غير ما دله عليه مما يقتله به لا يضمن الدال ، وإن لم يجد غيره يضمن ، ولا يحل للمحرم أكل ما ذبحه من الصيد ولا لغيره من المحرم والحلال ، وهو بمنزلة الميتة ; لأنه بالإحرام خرج من أن يكون أهلا للذكاة فلا تتصور منه الذكاة كالمجوسي إذا ذبح .

وكذا الصيد خرج من أن يكون محلا للذبح في حقه لقوله تعالى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } والتحريم المضاف إلى الأعيان يوجب خروجها عن محلية التصرف شرعا ، كتحريم الميتة وتحريم الأمهات والتصرف الصادر من غير الأهل وفي غير محله يكون ملحقا بالعدم فإن أكل المحرم الذابح منه فعليه الجزاء ، وهو قيمته في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي : رحمهم الله تعالى ليس عليه إلا التوبة والاستغفار ، ولا خلاف في أنه لو أكله غيره لا يلزمه إلا التوبة والاستغفار .

وجه قولهم أنه أكل ميتة فلا يلزمنه إلا التوبة والاستغفار كما لو أكله غيره ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه تناول محظور إحرامه فيلزمه الجزاء ، وبيان ذلك أن كونه ميتة لعدم الأهلية والمحلية وعدم الأهلية والمحلية بسبب الإحرام ، فكانت الحرمة بهذه الواسطة مضافة إلى الإحرام فإذا أكله فقد ارتكب محظور إحرامه فيلزمه الجزاء بخلاف ما إذا أكله محرم آخر أنه لا يجب عليه جزاء ما أكل ; لأن ما أكله ليس محظور إحرامه بل محظور إحرام غيره ، وكما لا يحل له لا يحل لغيره محرما كان أو حلالا عندنا .

وقال الشافعي : يحل لغيره أكله .

وجه قوله : إن الحرمة لمكان أنه صيد لقوله تعالى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } وهو صيده لا صيد غيره فيحرم عليه لا على غيره ، ولنا أن حرمته لكونه ميتة لعدم أهلية الذكاة ومحليتها فيحرم عليه وعلى غيره كذبيحة المجوسي هذا إذا أدى الجزاء ثم أكل .

فأما إذا أكل قبل أداء الجزاء ، فقد ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن عليه جزاء واحدا ويدخل ضمان ما أكل في الجزاء وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي أنه لا رواية في هذه المسألة فيجوز أن يقال يلزمه جزاء آخر [ ص: 205 ] ويجوز أن يقال يتداخلان ، وسواء تولى صيده بنفسه أو بغيره من المحرمين بأمره أو رمى صيدا فقتله أو أرسل كلبه أو بازيه المعلم أنه لا يحل له ; لأن صيد غيره بأمره صيده معنى .

وكذا صيد البازي والكلب والسهم ; لأن فعل الاصطياد منه ، وإنما ذلك آلة الاصطياد والفعل لمستعمل الآلة لا للآلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية