بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما شرائط جواز النيابة فمنها : أن يكون المحجوج عنه عاجزا عن أداء الحج بنفسه وله مال فإن كان قادرا على الأداء بنفسه بأن كان صحيح البدن وله مال لا يجوز حج غيره عنه ; لأنه إذا كان قادرا على الأداء ببدنه وله مال ، فالفرض يتعلق ببدنه لا بماله ، بل المال يكون شرطا وإذا تعلق الفرض ببدنه لا تجزئ فيه النيابة كالعبادات البدنية المحضة .

وكذا لو كان فقيرا صحيح البدن لا يجوز حج [ ص: 213 ] غيره عنه ; لأن المال من شرائط الوجوب فإذا لم يكن له مال لا يجب عليه أصلا فلا ينوب عنه غيره في أداء الواجب ولا واجب .

ومنها : العجز المستدام من وقت الإحجاج إلى وقت الموت ، فإن زال قبل الموت لم يجز حج غيره عنه ; لأن جواز حج الغير عن الغير ثبت بخلاف القياس لضرورة العجز الذي لا يرجى زواله فيتقيد الجواز به ، وعلى هذا يخرج المريض أو المحبوس إذا أحج عنه أن جوازه موقوف إن مات - وهو مريض أو محبوس - جاز وإن زال المرض أو الحبس قبل الموت لم يجز والإحجاج من الزمن والأعمى على أصل أبي حنيفة جائز ; لأن الزمانة والعمى لا يرجى زوالهما عادة فوجد الشرط - وهو العجز المستدام - إلى وقت الموت ومنها : الأمر بالحج فلا يجوز حج الغير عنه بغير أمره ; لأن جوازه بطريق النيابة عنه ، والنيابة لا تثبت إلا بالأمر إلا الوارث يحج عن مورثه بغير أمره ، فإنه يجوز إن شاء الله تعالى بالنص ، ولوجود الأمر هناك دلالة على ما نذكر - إن شاء الله تعالى - ، ومنها : نية المحجوج عنه عند الإحرام ; لأن النائب يحج عنه لا عن نفسه ، فلا بد من نيته ، والأفضل أن يقول بلسانه لبيك عن فلان كما إذا حج عن نفسه ، ومنها : أن يكون حج المأمور بمال المحجوج عنه ، فإن تطوع الحاج عنه بمال نفسه لم يجز عنه حتى يحج بماله .

وكذا إذا كان أوصى أن يحج عنه بماله ومات ، فتطوع عنه وارثه بمال نفسه ; لأن الفرض تعلق بماله فإذا لم يحج بماله لم يسقط عنه الفرض ; ولأن مذهب محمد أن نفس الحج يقع للحاج ، وإنما للمحجوج عنه ثواب النفقة ، فإذا لم ينفق من ماله فلا شيء له رأسا ، ومنها : الحج راكبا حتى لو أمره بالحج فحج ماشيا يضمن النفقة ويحج عنه راكبا ; لأن المفروض عليه هو الحج راكبا فينصرف مطلق الأمر بالحج إليه فإذا حج ماشيا فقد خالف فيضمن ، وسواء كان الحاج قد حج عن نفسه ، أو كان صرورة أنه يجوز في الحالين جميعا إلا أن الأفضل أن يكون قد حج عن نفسه .

وقال الشافعي : لا يجوز حج الصرورة عن غيره ويقع حجه عن نفسه ويضمن النفقة ، واحتج بما روي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يلبي عن شبرمة قال له صلى الله عليه وسلم : ومن شبرمة ؟ فقال : أخ لي أو صديق لي فقال صلى الله عليه وسلم أحججت عن نفسك ؟ فقال : لا فقال صلى الله عليه وسلم : حج عن نفسك ثم عن شبرمة } فالاستدلال به من وجهين : أحدهما أنه سأله عن حجه عن نفسه .

ولولا أن الحكم يختلف لم يكن لسؤاله معنى ، والثاني : أنه أمره بالحج عن نفسه أولا ثم عن شبرمة ، فدل أنه لا يجوز الحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه ; ولأن حجه عن نفسه فرض عليه ، وحجه عن غيره ليس بفرض ، فلا يجوز ترك الفرض بما ليس بفرض ، ولنا حديث الخثعمية " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها حجي عن أبيك ، ولم يستفسر أنها كانت حجت عن نفسها أو كانت صرورة .

ولو كان الحكم يختلف لاستفسر ; ولأن الأداء عن نفسه لم يجب في وقت معين فالوقت كما يصلح لحجه عن نفسه يصلح لحجه عن غيره ، فإذا عينه لحجه عن غيره وقع عنه ; ولهذا قال أصحابنا : إن الصرورة إذا حج بنية النفل أنه يقع عن النفل ; لأن الوقت لم يتعين للفرض بل يقبل الفرض والنفل ، فإذا عينه للنفل تعين له إلا أن عند إطلاق النية يقع عن الفرض ; لوجود نية الفرض بدلالة حاله إذ الظاهر أنه لا يقصد النفل ، وعليه الفرض فانصرف المطلق إلى المقيد بدلالة حاله لكن الدلالة إنما تعتبر عند عدم النص بخلافها فإذا نوى التطوع ، فقد وجد النص بخلافها فلا تعتبر الدلالة إلا أن الأفضل أن يكون قد حج عن نفسه ; لأنه بالحج عن غيره يصير تاركا إسقاط الفرض عن نفسه ، فيتمكن في هذا الإحجاج ضرب كراهة ، ولأنه إذا كان حج مرة كان أعرف بالمناسك .

وكذا هو أبعد عن محل الخلاف فكان أفضل ، والحديث محمول على الأفضلية توفيقا بين الدلائل ، وسواء كان رجلا أو امرأة إلا أنه يكره إحجاج المرأة ، لكنه يجوز أما الجواز فلحديث الخثعمية .

وأما الكراهة فلأنه يدخل في حجها ضرب نقصان ; لأن المرأة لا تستوفي سنن الحج فإنها لا ترمل في الطواف وفي السعي بين الصفا والمروة ولا تحلق ، وسواء كان حرا أو عبدا بإذن المولى لكنه يكره إحجاج العبد أما الجواز فلأنه يعمل بالنيابة ، وما تجوز فيه النيابة يستوي فيه الحر والعبد كالزكاة ونحوها .

وأما الكراهة فلأنه ليس من أهل أداء الفرض عن نفسه فيكره أداؤه عن غيره والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية