بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما بيان ما يصير به المأمور بالحج مخالفا ، وبيان حكمه إذا خالف فنقول : إذا أمر بحجة مفردة أو بعمرة مفردة فقرن فهو مخالف ضامن في قول [ ص: 214 ] أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد : يجزي ذلك عن الآمر نستحسن وندع القياس فيه ، ولا يضمن فيه دم القران على الحاج .

وجه قولهما أنه فعل المأمور به وزاد خيرا فكان مأذونا في الزيادة دلالة ، فلم يكن مخالفا كمن قال لرجل : اشتر لي هذا العبد بألف درهم فاشتراه بخمسمائة أو قال : بع هذا العبد بألف درهم ، فباعه بألف وخمسمائة يجوز ، وينفذ على الآمر لما قلنا كذا هذا ، وعليه دم القران ; لأن الحاج إذا قرن بإذن المحجوج عنه كان الدم على الحاج لما نذكر ، ولأبي حنيفة أنه لم يأت بالمأمور به ; لأنه أمر بسفر يصرفه إلى الحج لا غير ، ولم يأت به فقد خالف أمر الآمر فضمن .

ولو أمره أن يحج عنه فاعتمر ضمن ; لأنه خالف ولو اعتمر ثم حج من مكة يضمن النفقة في قولهم ; جميعا لأمره به بالحج ، بسفر وقد أتى بالحج من غير سفر ; لأنه صرف سفره الأول إلى العمرة ، فكان مخالفا فيضمن النفقة .

ولو أمره بالحج عنه فجمع بين إحرام الحج والعمرة فأحرم بالحج عنه وأحرم بالعمرة عن نفسه فحج عنه واعتمر عن نفسه صار مخالفا في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وعن أبي يوسف أنه يقسم النفقة على الحج والعمرة ويطرح عن الحج ما أصاب العمرة ، ويجوز ما أصاب الحج .

وجه رواية أبي يوسف أن المأمور فعل ما أمر به - وهو الحج - عن الآمر وزاده إحسانا حيث أسقط عنه بعض النفقة .

وجه ظاهر الرواية أنه أمره بصرف كل السفر إلى الحج ، ولم يأت به ; لأنه أدى بالسفر حجا عن الآمر وعمرة عن نفسه فكان مخالفا وبه تبين أنه فعل ما أمر به ، وقوله : ( أنه أحسن إليه حيث أسقط عنه بعض النفقة ) غير سديد ; لأن غرض الآمر في الحج عن الغير هو ثواب النفقة فإسقاطه لا يكون إحسانا ، بل يكون إساءة ولو أمره أن يعتمر فأحرم بالعمرة واعتمر ثم أحرم بالحج بعد ذلك ، وحج عن نفسه لم يكن مخالفا ; لأنه فعل ما أمر به وهو أداء العمرة بالسفر ، وإنما فعل بعد ذلك الحج فاشتغاله به كاشتغاله بعمل آخر من التجارة وغيرها إلا أن النفقة مقدار مقامه للحج من ماله ; لأنه عمل لنفسه وروى ابن سماعة عن محمد - رحمه الله - في الرقيات إذا حج عن الميت وطاف لحجه وسعى ثم أضاف إليه عمرة عن نفسه لم يكن مخالفا ; لأن هذه العمرة واجبة الرفض ; لوقوعها على مخالفة السنة على ما ذكرنا في فصل القران ، فكان وجودها والعدم بمنزلة واحدة .

ولو كان جمع بينهما ثم أحرم بهما ثم لم يطف حتى وقف بعرفة ورفض العمرة لم ينفعه ذلك ، وهو مع ذلك مخالف ; لأنه لما أحرم بهما جميعا فقد صار مخالفا في ظاهر الرواية على ما ذكرنا فوقعت الحجة عن نفسه فلا يحتمل التغيير بعد ذلك برفض العمرة .

`

التالي السابق


الخدمات العلمية