بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ومنها : أن يكون حرا فلا يجوز نكاح مملوك بالغ عاقل إلا بإذن سيده ، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم { أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر } .

والكلام في هذا الشرط يقع في مواضع في بيان أن إذن المولى شرط جواز نكاح المملوك ، لا يجوز من غير إذنه ، أو إجازته ، وفي بيان ما يكون إجازة له ، وفي بيان ما يملكه من النكاح بعد الإذن ، وفي بيان حكم المهر في نكاح المملوك .

[ ص: 234 ] أما الأول : فلا يجوز نكاح مملوك بغير إذن مولاه وإن كان عاقلا ، بالغا ، سواء كان قنا أو مدبرا ، أو مدبرة أو أم ولد ، أو مكاتبة ، أو مكاتبا أما القن ، فإن كان أمة فلا يجوز نكاحها بغير إذن سيدها بلا خلاف ; لأن منافع البضع مملوكة لسيدها ، ولا يجوز التصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وكذلك المدبرة وأم الولد لما قلنا .

وكذا المكاتبة لأنها ملك المولى رقبة ، وملك المتعة يتبع ملك الرقبة ، إلا أنه منع من الاستمتاع بها لزوال ملك اليد ، وفي الاستمتاع إثبات ملك اليد ، ولأن من الجائز أنها تعجز فترد إلى الرق فتعود قنة كما كانت فتبين أن نكاحها صادف المولى فلا يصح ، وإن كان عبدا فلا يجوز نكاحه أيضا عند عامة العلماء .

وقال مالك : يجوز .

( وجه ) قوله أن منافع بضع العبد لا تدخل تحت ملك المولى فكان المولى فيها على أصل الحرية ، والمولى أجنبي عنها ، فيملك النكاح كالحر بخلاف الأمة ; لأن منافع بضعها ملك المولى فمنعت من التصرف بغير إذنه ، ولنا أن العبد بجميع أجزائه ملك المولى لقوله تعالى { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء } أخبر سبحانه وتعالى أن العبيد ليسوا شركاء فيما رزق السادات ، ولا هم بسواء في ذلك ، ومعلوم أنه ما أراد به نفي الشركة في المنافع ; لاشتراكهم فيها دل أنه أراد به حقيقة الملك ، ولقوله تعالى { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } والعبد اسم لجميع أجزائه ، ولأن سبب الملك أضيف إلى كله فيثبت الملك في كله إلا أنه منع من الانتفاع ببعض أجزائه بنفسه ، وهذا لا يمنع ثبوت الملك له كالأمة المجوسية وغير ذلك ، وكذلك المأذون في التجارة ; لأنه عبد مملوك ، ولأنه كان محجورا قبل الإذن بالتجارة والنكاح ليس من التجارة لأن التجارة معاوضة المال بالمال ، والنكاح معاوضة البضع بالمال ، والدليل عليه أن المرأة إذا زوجت نفسها على عبد تنوي أن يكون العبد للتجارة لم يكن للتجارة .

ولو كان النكاح من التجارة لكان بدل البضع للتجارة كالبيع ، فكان هو بالنكاح متصرفا في ملك مولاه ، فلا يجوز كما لا يجوز نكاح الأمة ، والدليل عليه قوله تعالى : { لا يقدر على شيء } وصف العبد المملوك بأنه لا يقدر على شيء ، ومعلوم أنه إنما أراد به القدرة الحقيقية ; لأنها ثابتة له فتعين القدرة الشرعية وهي إذن الشرع وإطلاقه ، فكان نفي القدرة الشرعية نفيا للإذن والإطلاق ، ولا يجوز إثبات التصرف الشرعي بغير إذن الشرع ، وكذلك المدبر ; لأنه عبد مملوك ، وكذلك المكاتب ; لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه كان محجورا عن التزوج قبل الكتابة .

وعند الكتابة ما أفاد له إلا الإذن بالتجارة ، والنكاح ليس من التجارة ; لأن التجارة معاوضة المال بالمال والنكاح معاوضة البضع بالمال والدليل عليه أن المرأة إذا زوجت نفسها على عبد تنوي أن العبد يكون للتجارة لم يكن للتجارة .

ولو كان النكاح من التجارة لكان بدل البضع للتجارة كالبيع .

وأما معتق البعض فلا يجوز نكاحه عند أبي حنيفة ; لأنه بمنزلة المكاتب عنده .

وعند أبي يوسف ومحمد يجوز لأنه بمنزلة حر عليه دين عندهما .

ولو تزوج بغير إذن المولى واحد ممن ذكرنا أنه لا يجوز تزويجه إلا بإذن المولى ثم إن أجاز المولى النكاح جاز ; لأن العقد صدر من الأهل في المحل ، إلا أنه امتنع النفاذ لحق المولى فإذا أجاز فقد زال المانع ، ولا يجوز للعبد أن يتسرى وإن أذن له مولاه ; لأن حل الوطء لا يثبت إلا بأحد الملكين قال الله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } ولم يوجد أحدهما .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يتسرى العبد ولا يسريه مولاه ولا يملك العبد ولا المكاتب شيئا إلا الطلاق } وهذا نص .

وأما بيان ما يكون إجازة : فالإجازة قد ثبتت بالنص وقد ثبتت بالدلالة وقد ثبتت بالضرورة ، أما النص : فهو الصريح بالإجازة وما يجري مجراها نحو أن يقول : أجزت ، أو رضيت ، أو أذنت ، ونحو ذلك .

وأما الدلالة : فهي قول أو فعل يدل على الإجازة مثل أن يقول المولى إذا أخبر بالنكاح : حسن ، أو صواب ، أو لا بأس به ، ونحو ذلك ، أو يسوق إلى المرأة المهر أو شيئا منه في نكاح العبد ، ونحو ذلك مما يدل على الرضا .

ولو قال له المولى : طلقها أو فارقها لم يكن إجازة ; لأن قوله طلقها أو فارقها يحتمل حقيقة الطلاق والمفارقة ويحتمل المتاركة ; لأن النكاح الفاسد والنكاح الموقوف يسمى طلاقا ومفارقة [ ص: 235 ] فوقع الشك والاحتمال في ثبوت الإجازة ، فلا يثبت بالشك والاحتمال .

ولو قال له : طلقها تطليقة تملك الرجعة ; فهو إجازة لارتفاع الترداد إذ لا رجعة في المتاركة للنكاح الموقوف وفسخه وأما الضرورة فنحو : أن يعتق المولى العبد أو الأمة فيكون الإعتاق إجازة .

ولو أذن بالنكاح لم يكن الإذن بالنكاح إجازة .

ووجه الفرق بينهما من وجهين أحدهما : أنه لو لم يجعل الإعتاق إجازة لكان لا يخلو إما أن يبطل بالنكاح الموقوف وإما أن يبقى موقوفا على الإجازة ، ولا سبيل إلى الأول ; لأن النكاح صدر من الأهل في المحل فلا يبطل إلا بإبطال من له ولاية الإبطال ; ولا سبيل إلى الثاني ; لأنه لو بقي موقوفا على الإجازة .

فأما إن بقي موقوفا على إجازة المولى أو على إجازة العبد لا وجه للأول ; لأن ولاية الإجازة لا تثبت إلا بالملك وقد زال بالإعتاق ، ولا وجه للثاني لأن العقد وجد من العبد فكيف يقف عقد الإنسان على إجازته .

وإذا بطلت هذه الأقسام وليس ههنا قسم آخر لزم أن يجعل الإعتاق إجازة ضرورة وهذه الضرورة لم توجد في الإذن بالنكاح ، وللثاني أن امتناع النفاذ مع صدور التصرف من الأهل في المحل لقيام حق المولى - وهو الملك - نظرا له ، دفعا للضرر عنه ، وقد زال ملكه بالإعتاق فزال المانع من النفوذ ، والإذن بالتزوج لا يوجب زوال المانع - وهو الملك - لكنه بالإذن أقامه مقام نفسه في النكاح كأنه هو ، ثم ثبوت ولاية الإجازة له لم تكن إجازة ما لم يجز ، فكذا العبد ، ثم إذا لم يكن نفس الإذن من المولى بالنكاح إجازة لذلك العقد ; فإن أجازه العبد جاز استحسانا ، والقياس أن لا يجوز .

وإن أجازه وجه القياس أنه مأذون بالعقد ، والإجازة مع العقد متغايران اسما وصورة وشرطا أما الاسم والصورة : فلا شك في تغايرهما .

وأما الشرط فإن محل العقد عليه ، ومحل الإجازة نفس العقد .

وكذا الشهادة شرط العقد لا شرط الإجازة ، والإذن بأحد المتغايرين لا يكون إذنا بالآخر .

وجه الاستحسان أن العبد أتى ببعض ما هو مأذون فيه ، فكان متصرفا عن إذن ، فيجوز تصرفه ، ودلالة ذلك أن المولى أذن له بعقد نافذ فكان مأذونا بتحصيل أصل العقد ووصفه - وهو النفاذ - وقد حصل النفاذ فيحصل ، ولهذا لو زوج فضولي هذا العبد امرأة بغير إذن المولى فأجاز العبد نفذ العقد دل أن تنفيذ العقد بالإجازة مأذون فيه من قبل المولى فينفذ بإجازته ، ثم إذا نفذ النكاح بالإعتاق وهي أمة فلا خيار لها ; لأن النكاح نفذ بعد العتق فالإعتاق لم يصادفها وهي منكوحة ، والمهر لها إن لم يكن الزوج دخل بها قبل الإعتاق ، وإن كان قد دخل بها قبل الإعتاق فالمهر للمولى ، هذا إذا أعتقها وهي كبيرة فأما إذا كانت صغيرة فأعتقها فإن الإعتاق لا يكون إجازة .

ويبطل العقد عند زفر .

وعندنا يبقى موقوفا على إجازة المولى إذا لم يكن لها عصبة ، فإن كان لها عصبة يتوقف على إجازة العصبة ، ويجوز بإجازة العصبة ثم إن كان المجيز غير الأب أو الجد فلها خيار الإدراك ; لأن العقد نفذ عليها في حالة الصغر ، وهي حرة ، وإن كان المجيز أبوها أو جدها فلا خيار لها .

ولو مات المولى قبل الإجازة فإن ورثها من يحل له وطؤها بطل النكاح الموقوف ; لأن الحل النافذ قد طرأ على الموقوف لوجود سبب الحل - وهو الملك - قال الله تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } ومن ضرورة ثبوت الحل له ارتفاع الموقوف ، وإن ورثها من لا يحل له وطؤها بأن كان الوارث ابن الميت وقد وطئها أبوه ، أو كانت الأمة أخته من الرضاع ، أو ورثها جماعة ، فللوارث الإجازة لأنه لم يوجد طريان الحل فبقي الموقوف على حاله ، وكذلك إذا باعها المولى قبل الإجازة فهو على التفصيل الذي ذكرنا في الوارث وعلى هذا قالوا فيمن تزوج جارية غيره بغير إذنه ووطئها ثم باعها المولى من رجل أن للمشتري الإجازة ; لأن وطء الزوج يمنع حل الوطء للمشتري .

وأما العبد إذا تزوج بغير إذن المولى فمات الولي أو باعه قبل الإجازة فللوارث والمشتري الإجازة ; لأنه لا يتصور حل الوطء ههنا فلم يوجد طريان حل الوطء ، فبقي الموقوف بحاله .

وهذا الذي ذكرنا قول أصحابنا الثلاثة .

وقال زفر : لا يجوز بإجازة الوارث والمشتري بل يبطل .

والأصل فيه أن العقد الموقوف على إجازة إنسان يحتمل الإجازة من قبل غيره عندنا وعنده لا يحتمل .

وجه قوله أن الإجازة إنما تلحق الموقوف ; لأنها تنفيذ الموقوف فإنما تلحقه على الوجه الذي وقف وإنما وقف على الأول لا على الثاني ، فلا يملك الثاني تنفيذه [ ص: 236 ]

( ولنا ) أنه إنما وقف على إجازة الأول ; لأن الملك له وقد صار الملك للثاني فتنتقل الإجازة إلى الثاني ; وهذا لأن المالك يملك إنشاء النكاح بأصله ووصفه - وهو النفاذ - فلأن يملك تنفيذ النكاح الموقوف - وأنه إثبات الوصف دون الأصل - أولى ولو زوجت المكاتبة نفسها بغير إذن المولى حتى وقف على إجازته فأعتقها نفذ العقد .

والأخبار فيه كما ذكرنا في الأمة القنة .

وكذلك إذا أدت فعتقت ، وإن عجزت فإن كان بضعها يحل للمولى يبطل العقد ، وإن كان لا يحل بأن كانت أخته من الرضاع أو كانت مجوسية توقف على إجازته .

ولو كان المولى هو الذي عقد عليها بغير رضاها حتى وقف على إجازتها فأجازت جاز العقد ، وإن أدت فعتقت أو أعتقها المولى توقف العقد على إجازتها إن كانت كبيرة ، وإن كانت صغيرة فهو على ما ذكرنا من الاختلاف في الأمة ، وتتوقف على إجازة المولى عندنا إذا لم يكن لها عصبة غير المولى ، فإن كان فأجازوا جاز وإذا أدركت فلها خيار الإدراك إذا كان المجبر غير الأب والجد على ما ذكرنا .

وإن لم يعتقها حتى عجزت بطل العقد .

وإن كان بضعها يحل للمولى وإن كان لا يحل له فلا يجوز إلا بإجازته .

التالي السابق


الخدمات العلمية