بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) الأحكام المتعلقة بالجنابة فما لا يباح للمحدث فعله من مس المصحف بدون غلافه ، ومس الدراهم التي عليها القرآن ، ونحو ذلك لا يباح للجنب من طريق الأولى لأن الجنابة أغلظ الحدثين ، ولو كانت الصحيفة على الأرض فأراد الجنب أن يكتب القرآن عليها روي عن أبي يوسف أنه لا بأس ، لأنه ليس بحامل للصحيفة ، والكتابة توجد حرفا حرفا .

وهذا ليس بقرآن وقال محمد أحب إلي أن لا يكتب ، لأن كتابة الحروف تجري مجرى القراءة .

وروي عن أبي يوسف أنه لا يترك الكافر أن يمس المصحف لأن الكافر نجس فيجب تنزيه المصحف عن مسه .

وقال محمد لا بأس به إذا اغتسل ; لأن المانع هو الحدث وقد زال بالغسل ، وإنما بقي نجاسة اعتقاده ، وذلك في قلبه لا في يده ، ولا يباح للجنب قراءة القرآن عند عامة العلماء وقال مالك يباح له ذلك وجه قوله إن الجنابة أحد الحدثين فيعتبر بالحدث الآخر ، وأنه لا يمنع من القراءة كذا [ ص: 38 ] الجنابة .

( ولنا ) ما روي أن { النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحجزه شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة } ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا تقرأ الحائض ، ولا الجنب شيئا من القرآن } ، وما ذكر من الاعتبار فاسد ، لأن أحد الحدثين حل الفم ، ولم يحل الآخر ، فلا يصح اعتبار أحدهما بالآخر ، ويستوي في الكراهة الآية التامة ، وما دون الآية عند عامة المشايخ وقال الطحاوي : لا بأس بقراءة ما دون الآية ، والصحيح قول العامة لما روينا من الحديثين من غير فصل بين القليل ، والكثير ، ولأن المنع من القراءة لتعظيم القرآن ، ومحافظة على حرمته ، وهذا لا يوجب الفصل بين القليل ، والكثير فيكره ذلك كله لكن إذا قصد التلاوة .

فأما إذا لم يقصد بأن قال : باسم الله لافتتاح الأعمال تبركا ، أو قال : الحمد لله للشكر لا بأس به لأنه من باب ذكر اسم الله تعالى ، والجنب غير ممنوع عن ذلك ، وتكره قراءة القرآن في المغتسل والمخرج ، لأن ذلك موضع الأنجاس .

فيجب تنزيه القرآن عن ذلك ، وأما في الحمام فتكره عند أبي حنيفة ، وأبي يوسف وعند محمد لا تكره بناء على أن الماء المستعمل نجس عندهما فأشبه المخرج .

وعند محمد طاهر ، فلا تكره ولا يباح للجنب دخول المسجد ، وإن احتاج إلى ذلك يتيمم ، ويدخل سواء كان الدخول لقصد المكث أو للاجتياز عندنا وقال الشافعي : يباح له الدخول بدون التيمم إذا كان مجتازا ، واحتج بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة ، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا جنبا إلا عابري سبيل ، حتى تغتسلوا } قيل : المراد من الصلاة مكانها ، وهو المسجد كذا روي عن ابن مسعود ، وعابر سبيل هو المار يقال : عبر ، أي : مر نهي الجنب عن دخول المسجد بدون الاغتسال .

واستثنى عابري السبيل ، وحكم المستثنى يخالف حكم المستثنى منه فيباح له الدخول بدون الاغتسال ( ولنا ) ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { سدوا الأبواب فإني لا أحلها لجنب ، ولا لحائض } ، والهاء كناية عن المساجد نفى الحل من غير فصل بين المجتاز ، وغيره .

وأما الآية فقد روي عن علي ، وابن عباس رضي الله عنهما أن المراد هو حقيقة الصلاة ، وأن عابر السبيل هو المسافر الجنب الذي لا يجد الماء فيتيمم فكان هذا إباحة الصلاة بالتيمم للجنب المسافر إذا لم يجد الماء ، وبه نقول : وهذا التأويل أولى لأن فيه بقاء اسم الصلاة على حالها فكان أولى ، أو يقع التعارض بين التأويلين ، فلا تبقى الآية حجة له ، ولا يطوف بالبيت ، وإن طاف جاز مع النقصان لما ذكرنا في المحدث إلا أن النقصان مع الجنابة أفحش لأنها أغلظ ، ويصح من الجنب أداء الصوم دون الصلاة ، لأن الطهارة شرط جواز الصلاة دون الصوم ، ويجب عليه كلاهما ، حتى يجب عليه قضاؤهما بالترك ، لأن الجنابة لا تمنع من وجوب الصوم بلا شك ، ويصح أداؤه مع الجنابة ، ولا يمنع من وجوب الصلاة أيضا .

وإن كان لا يصح أداؤها مع قيام الجنابة ، لأن في وسعه رفعها بالغسل قبل أن يتوضأ ، ولا بأس للجنب أن ينام ويعاود أهله لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله { أينام أحدنا ، وهو جنب قال : نعم ، ويتوضأ وضوءه للصلاة } ، وله أن ينام قبل أن يتوضأ وضوءه للصلاة لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت { كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام ، وهو جنب من غير أن يمس ماء } ، ولأن الوضوء ليس بقربة بنفسه ، وإنما هو لأداء الصلاة ، وليس في النوم ذلك ، وإن أراد أن يأكل ، أو يشرب فينبغي أن يتمضمض ، ويغسل يديه .

ثم يأكل ، ويشرب ، لأن الجنابة حلت الفم فلو شرب قبل أن يتمضمض صار الماء مستعملا فيصير شاربا بالماء المستعمل ، ويده لا تخلو عن نجاسة فينبغي أن يغسلها ، ثم يأكل وهل يجب على الزوج ثمن ماء الاغتسال اختلف المشايخ فيه قال بعضهم : لا يجب سواء كانت المرأة غنية أو فقيرة غير أنها إن كانت فقيرة يقال : للزوج إما أن تدعها حتى تنتقل إلى الماء ، أو تنقل الماء إليها وقال بعضهم : يجب ، وهو قول الفقيه أبي الليث رحمه الله ، لأنه لا بد لها منه فنزل منزلة الماء الذي للشرب ، وذلك عليه كذا هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية