بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

ومنها التأبيد فلا يجوز .

النكاح المؤقت وهو نكاح المتعة وأنه نوعان : .

أحدهما : أن يكون بلفظ التمتع ، والثاني : أن يكون بلفظ النكاح والتزويج وما يقوم مقامهما .

أما الأول : فهو أن يقول : أعطيك كذا على أن أتمتع منك يوما أو شهرا أو سنة ونحو ذلك ، وأنه باطل عند عامة العلماء .

وقال بعض الناس : هو جائز واحتجوا بظاهر قوله تعالى : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } والاستدلال بها من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه ذكر الاستمتاع ولم يذكر النكاح ، والاستمتاع والتمتع واحد ، والثاني : أنه تعالى أمر بإيتاء الأجر ، وحقيقة الإجارة والمتعة عقد الإجارة على منفعة البضع والثالث : أنه تعالى أمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع ، وذلك يكون في عقد الإجارة والمتعة ، فأما المهر فإنما يجب في النكاح بنفس العقد ويؤخذ الزوج بالمهر أولا ثم يمكن من الاستمتاع فدلت الآية الكريمة على جواز عقد المتعة ، ولنا الكتاب والسنة والإجماع والمعقول ، أما الكتاب الكريم فقوله عز وجل : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } حرم تعالى الجماع إلا بأحد شيئين ، والمتعة [ ص: 273 ] ليست بنكاح ولا بملك يمين فيبقى التحريم ، والدليل على أنها ليست بنكاح أنها ترتفع من غير طلاق ولا فرقة ولا يجري التوارث بينهما ، فدل أنها ليست بنكاح فلم تكن هي زوجة له ، وقوله تعالى في آخر الآية : { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } سمي مبتغي ما وراء ذلك عاديا ، فدل على حرمة الوطء بدون هذين الشيئين وقوله عز وجل : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } ، وكان ذلك منهم إجازة الإماء نهى الله عز وجل عن ذلك ، وسماه بغاء فدل على الحرمة .

وأما السنة فما روي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية } وعن سمرة الجهني رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم فتح مكة } ، وعن عبد الله بن عمر أنه قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية } .

وروي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائما بين الركن والمقام ، وهو يقول : إني كنت أذنت لكم في المتعة فمن كان عنده شيء فليفارقه ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا فإن الله قد حرمها إلى يوم القيامة } وأما الإجماع فإن الأمة بأسرهم امتنعوا عن العمل بالمتعة مع ظهور الحاجة لهم إلى ذلك وأما المعقول فهو أن النكاح ما شرع لاقتضاء الشهوة بل لأغراض ومقاصد يتوسل به إليها ، واقتضاء الشهوة بالمتعة لا يقع وسيلة إلى المقاصد فلا يشرع .

وأما الآية الكريمة فمعنى قوله : { فما استمتعتم به منهن } أي : في النكاح ; لأن المذكور في أول الآية وآخرها هو النكاح فإن الله تعالى ذكر أجناسا من المحرمات في أول الآية في النكاح ، وأباح ما وراءها بالنكاح بقوله عز وجل : { : وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } أي : بالنكاح ، وقوله تعالى : { محصنين غير مسافحين } أي : غير متناكحين غير زانين .

وقال تعالى في سياق الآية الكريمة : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات } ذكر النكاح لا الإجارة والمتعة ، فيصرف قوله تعالى : { فما استمتعتم به } إلى الاستمتاع بالنكاح .

وأما قوله : سمى الواجب أجرا فنعم المهر في النكاح يسمى أجرا قال الله عز وجل : { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن } أي : مهورهن .

وقال سبحانه وتعالى : { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } وقوله : أمر تعالى بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع بهن ، والمهر يجب بنفس النكاح ويؤخذ قبل الاستمتاع قلنا : قد قيل : في الآية الكريمة تقديم وتأخير كأنه تعالى : قال : فآتوهن أجورهن إذا استمتعتم به منهن ، أي : إذا أردتم الاستمتاع بهن كقوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } أي : إذا أردتم تطليق النساء على أنه إن كان المراد من الآية الإجارة والمتعة فقد صارت منسوخة بما تلونا من الآيات ، وروينا من الأحاديث وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله : { فما استمتعتم به منهن } نسخه قوله - عز وجل - : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : المتعة بالنساء منسوخة نسختها آية الطلاق ، والصداق والعدة والمواريث والحقوق التي يجب فيها النكاح ، أي : النكاح هو الذي تثبت به هذه الأشياء ولا يثبت شيء منها بالمتعة والله أعلم .

وأما الثاني : فهو أن يقول : أتزوجك عشرة أيام ونحو ذلك وأنه فاسد عند أصحابنا الثلاثة .

وقال زفر : ( النكاح جائز ، وهو مؤبد والشرط باطل ) ، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال إذا ذكرا من المدة مقدار ما يعيشان إلى تلك المدة ، فالنكاح باطل ، وإن ذكرا من المدة مقدار ما لا يعيشان إلى تلك المدة في الغالب يجوز النكاح كأنهما ذكرا الأبد ( وجه ) قوله : أنه ذكر النكاح وشرط فيه شرطا فاسدا ، والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة فبطل الشرط وبقي النكاح صحيحا كما إذا قال : تزوجتك إلى أن أطلقك إلى عشرة أيام .

( ولنا ) أنه لو جاز هذا العقد لكان لا يخلو ، إما أن يجوز مؤقتا بالمدة المذكورة وإما أن يجوز مؤبدا لا سبيل إلى الأول ; لأن هذا معنى المتعة إلا أنه عبر عنها بلفظ النكاح والتزوج ، والمعتبر في العقود معانيها لا الألفاظ كالكفالة بشرط براءة الأصيل إنها حوالة معنى لوجود الحوالة ، وإن لم يوجد لفظها والمتعة منسوخة ولا وجه للثاني ; لأن فيه استحقاق البضع عليها من غير رضاها ، وهذا لا يجوز .

وأما قوله : أتى بالنكاح ثم أدخل عليه شرطا فاسدا [ ص: 274 ] فممنوع بل أتى بنكاح مؤقت ، والنكاح المؤقت نكاح متعة ، والمتعة منسوخة وصار هذا كالنكاح المضاف أنه لا يصح ، ولا يقال : يصح النكاح وتبطل الإضافة ; لأن المأتي به نكاح مضاف وأنه لا يصح كذا هذا بخلاف ما إذا قال : تزوجتك على أن أطلقك إلى عشرة أيام ; لأن هناك أبد النكاح ثم شرط قطع التأبيد بذكر الطلاق في النكاح المؤبد ; لأنه على أن " أن " كلمة شرط ، والنكاح المؤبد لا تبطله الشروط والله عز وجل أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية