بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان أدنى المقدار الذي يصلح مهرا فأدناه عشرة دراهم أو ما قيمته عشرة دراهم ، وهذا [ ص: 276 ] عندنا وعند الشافعي المهر غير مقدر يستوي فيه القليل والكثير وتصلح الدانق والحبة مهرا واحتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من أعطى في نكاح ملء كفيه طعاما أو دقيقا أو سويقا فقد استحل } وروي عن أنس رضي الله عنه أنه قال : تزوج عبد الرحمن بن عوف امرأة على وزن نواة من ذهب ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فدل أن التقدير في المهر ليس بلازم ; ولأن المهر ثبت حقا للعبد وهو حق المرأة بدليل أنها تملك التصرف فيه استيفاء وإسقاطا ، فكان التقدير فيه إلى العاقدين .

( ولنا ) قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } شرط سبحانه وتعالى أن يكون المهر مالا .

والحبة والدانق ونحوهما لا يعدان مالا فلا يصلح مهرا ، وروي عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا مهر دون عشرة دراهم } ، وعن عمر وعلي وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنهم قالوا : لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم ، والظاهر أنهم لأنه باب لا يوصل إليه بالاجتهاد والقياس ; ولأنه لما وقع الاختلاف في المقدار يجب الأخذ بالمتيقن وهو العشرة .

وأما الحديث ففيه إثبات الاستحلال ، إذا ذكر فيه مال قليل لا تبلغ قيمته عشرة .

وعندنا الاستحلال صحيح ثابت ; لأن النكاح صحيح ثابت ألا ترى أنه يصح من غير تسمية شيء أصلا ؟ ، فعند تسمية مال قليل أولى إلا أن المسمى إذا كان دون العشرة تكمل عشرة ، وليس في الحديث نفي الزيادة على القدر .

وعندنا قام دليل الزيادة إلى العشرة لما نذكر فيكمل عشرة ولا حجة له فيما روي من الأثر ; لأن فيه وزن نواة من ذهب ، وقد تكون مثل وزن دينار بل تكون أكثر في العادة ، فإن قيل : روي أن قيمة النواة كانت ثلاثة دراهم ، فالجواب أن المقوم غير معلوم أنه من كان فلا يصلح أن يجعل قول ذلك حجة على الغير حتى يعلم أنه من هو مع ما أنه قد قال قوم : إن النواة كان بلغ وزنها قيمة عشرة دراهم ، وبه قال إبراهيم النخعي على أن القدر المذكور في الخبر والأثر كان يحتمل أن يكون معجلا في المهر لا أصل المهر على ما جرت العادة بتعجيل شيء من المهر قبل الدخول ويحتمل أن يكون ذلك كله في حال جواز النكاح بغير مهر على ما قيل أن النكاح كان جائزا بغير مهر إلى أن { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشغار } .

وأما قوله : إن المهر حق العبد فكان التقدير فيه إلى العبد فنقول نعم هو في حالة البقاء حقها على الخلوص فأما في حالة الثبوت فحق الشرع متعلق به إبانة لخطر البضع صيانة له عن شبهة الابتذال بإيجاب مال له خطر في الشرع كما في نصاب السرقة ، فإن كان المسمى أقل من عشرة يكمل عشرة عند أصحابنا الثلاثة وقال زفر : لها مهر المثل .

( وجه ) قوله أن ما دون العشرة لا يصلح مهرا ففسدت التسمية كما لو سمى خمرا أو خنزيرا فيجب مهر المثل .

( ولنا ) أنه لما كان أدنى المقدار الذي يصلح مهرا في الشرع هو العشرة كان ذكر بعض العشرة ذكرا للكل ; لأن العشرة في كونها مهرا لا يتجزأ وذكر البعض فيما لا يتبعض يكون ذكرا لكله كما في الطلاق والعفو عن القصاص .

وأما قوله : إن ما دون العشرة لا يصلح مهرا فتفسد التسمية فنقول : التسمية إنما تفسد إذا لم يكن المسمى مالا أو كان مجهولا ، وههنا المسمى مال ، وإن قل فهو معلوم أنه لا يصلح مهرا بنفسه إلا بغيره فكان ذكره ذكرا لما هو الأدنى من المصلح بنفسه ، وفيه تصحيح تصرفه بالقدر الممكن فكان أولى من إلحاقه بالعدم ، وفيه أخذ باليقين أيضا فكان أحق بخلاف ما إذا ذكر خمرا أو خنزيرا ; لأن المسمى ليس بمال فلم يصلح مهرا بنفسه ولا بغيره ففسدت التسمية فوجب الموجب الأصلي - وهو مهر المثل - ولو تزوجها على ثوب معين أو على موصوف أو على مكيل أو موزون معين فذلك مهرها إذا بلغت قيمته عشرة وتعتبر قيمته يوم العقد لا يوم التسليم حتى لو كانت قيمته يوم العقد عشرة فلم يسلمه إليها حتى صارت قيمته ثمانية فليس له إلا ذلك .

ولو كانت قيمته يوم العقد ثمانية فلم يسلمه إليها حتى صارت قيمته عشرة فلها ذلك ودرهمان .

وذكر الحسين عن أبي حنيفة أنه فرق بين الثوب وبين المكيل والموزون فقال في الثوب تعتبر قيمته يوم التسليم ، وفي المكيل والموزون يوم العقد وهذا الفرق لا يعقل له وجه في المعين ; لأن الزوج يجبر على تسليم [ ص: 277 ] المعين فيهما جميعا ووجه الفرق بينهما في الموصوف أن المكيل والموزون إذا كان موصوفا في الذمة ، فالزوج مجبور على دفعه ولا يجوز دفع غيره من غير رضاها فكان مستقرا مهرا بنفسه في ذمته فتعتبر قيمته يوم الاستقرار - وهو يوم العقد - فأما الثوب - وإن وصف - فلم يتقرر مهرا في الذمة بنفسه بل الزوج مخير في تسليمه وتسليم قيمته في إحدى الروايتين على ما نذكر - إن شاء الله تعالى - وإنما يتقرر مهرا بالتسليم فتعتبر قيمته يوم التسليم ( وجه ) ظاهر الرواية أن ما جعل مهرا لم يتغير في نفسه ، وإنما التغير في رغبات الناس بحدوث فتور فيها ، ولهذا لو غصب شيئا قيمته عشرة فيعتبر سعره ، وصار يساوي خمسة فرده على المالك لا يضمن شيئا ، ولأنه لما سمى ما هو أدنى مالية من العشرة كان ذلك تسمية للعشرة ; لأن ذكر البعض فيما لا يتجزأ ذكر لكله فصار كأنه سمى ذلك درهمين ثم ازدادت ، قيمته والله عز وجل أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية