بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ولو تزوج حر امرأة على أن يخدمها سنة ، فالتسمية فاسدة ولها مهر مثلها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف

وعند محمد التسمية صحيحة ولها قيمة خدمة سنة ، وعند الشافعي التسمية صحيحة ولها خدمة سنة .

وذكر ابن سماعة في نوادره أنه إذا تزوجها على أن يرعى غنمها سنة أن التسمية صحيحة ، ولها رعي غنمها سنة ، ولفظ رواية الأصل يدل على أنها لا تصح في رعي الغنم كما لا تصح في الخدمة ; لأن رعي غنمها خدمتها ، من مشايخنا من جعل في رعي غنمها روايتين ، ومنهم من قال : يصح في رعي الغنم بالإجماع ، وإنما الخلاف في خدمته لها ، ولا خلاف في أن العبد إذا تزوج بإذن المولى امرأة على أن يخدمها سنة أن تصح التسمية ولها المسمى ، أما الشافعي فقد مر على أصله أن كل ما يجوز أخذ العوض عنه يصح تسميته مهرا ، ومنافع الحر يجوز أخذ العوض عنها ; لأن إجارة الحر جائزة بلا خلاف فتصح تسميتها كما تصح تسمية منافع العبد .

وأما الكلام مع أصحابنا ، فوجه قول محمد أن منافع الحر مال ; لأنها مال في سائر العقود حتى يجوز أخذ العوض عنها فكذا في النكاح ، وإذا كانت مالا صحت التسمية إلا أنه تعذر التسليم لما في التسليم من استخدام الحرة زوجها ، وأنه حرام لما نذكر ، فيجب الرجوع إلى قيمة الخدمة كما لو تزوجها على عبد فاستحق العبد أنه يجب عليه قيمة العبد ; لأن تسمية العبد قد صحت لكونه مالا لكن تعذر تسليمه بالاستحقاق فوجبت عليه قيمته لا مهر المثل لما قلنا : كذا هذا .

وجه قولهما : أن المنافع ليست بأموال متقومة على أصل أصحابنا ، ولهذا لم تكن مضمونة بالغصب والإتلاف ، وإنما يثبت لها حكم التقوم في سائر العقود شرعا ضرورة ; دفعا للحاجة بها ولا يمكن دفع الحاجة بها ههنا ; لأن الحاجة لا تندفع إلا بالتسليم ، وأنه ممنوع عنه شرعا ; لأن استخدام الحرة زوجها الحر حرام ; لكونه استهانة وإذلالا ، وهذا لا يجوز ، ولهذا لا يجوز للابن أن يستأجر أباه للخدمة فلا تسلم خدمته لها شرعا ، فلا يمكن دفع الحاجة بها فلم يثبت لها التقوم فبقيت على الأصل ، فصار كما لو سمى ما لا قيمة له كالخمر والخنزير ، وهناك لا تصح التسمية ويجب مهر المثل كذا ههنا حتى لو كان المسمى فعلا لا استهانة فيه [ ص: 279 ] ولا مذلة على الرجل ، كرعي دوابها وزراعة أرضها ، والأعمال التي خارج البيت تصح بالتسمية ; لأن ذلك من باب القيام بأمرها لا من باب الخدمة بخلاف العبد ; لأن استخدام زوجته إياه ليس بحرام ; لأنه عرضة للاستخدام والابتذال لكونه مملوكا ملحقا بالبهائم ; ولأن مبنى النكاح على الاشتراك في القيام بمصالح المعاش فكان لها في خدمته حق ، فإذا جعل خدمته لها مهرها ، فكأنه جعل ما هو لها مهرها فلم يجز كالأب إذا استأجر ابنه بخدمته أنه لا يجوز ; لأن خدمة الأب مستحقة عليه كذا هذا بخلاف العبد ; لأن خدمته خالص ملك المولى فصحت التسمية .

ولو تزوجها على منافع سائر الأعيان من سكنى داره وخدمة عبيده وركوب دابته والحمل عليها وزراعة أرضه ونحو ذلك من منافع الأعيان مدة معلومة صحت التسمية ; لأن هذه المنافع أموال أو التحقت بالأموال شرعا في سائر العقود لمكان الحاجة ، والحاجة في النكاح متحققة ، وإمكان الدفع بالتسليم ثابت بتسليم محالها إذ ليس فيه استخدام المرأة زوجها فجعلت أموالا والتحقت بالأعيان فصحت تسميتها ، وعلى هذا يخرج ما إذا قال : تزوجتك على هذا العبد فإذا هو حر ، وجملة الكلام فيه أن الأمر لا يخلو أما إن سمى ما يصلح مهرا وأشار إلى ما لا يصلح مهرا .

وأما إن سمى ما لا يصلح مهرا فأشار إلى ما يصلح مهرا ، فإن سمى ما يصلح مهرا وأشار إلى ما لا يصلح مهرا بأن قال : تزوجتك على هذا العبد فإذا هو حر أو على هذه الشاة الذكية ، فإذا هي ميتة أو على هذا الزق الخل فإذا هو خمر ، فالتسمية فاسدة في جميع ذلك ، ولها مهر المثل في قول أبي حنيفة ، وفي قول أبي يوسف " تصح التسمية في الكل ، وعليه في الحر قيمة الحر لو كان عبدا ، وفي الشاة قيمة الشاة لو كانت ذكية ، وفي الخمر مثل ذلك الدن من خل وسط ومحمد فرق فقال : مثل قول أبي حنيفة في الحر والميتة ، ومثل قول أبي يوسف في الخمر ( وجه ) قول أبي يوسف أن المسمى مال ; لأن المسمى هو العبد والشاة الذكية والخل ، وكل ذلك مال فصحت التسمية إلا أنه إذا ظهر أن المشار إليه خلاف جنس المسمى في صلاحية المهر تعذر التسليم فتجب القيمة في الحر والشاة ; لأنهما ليسا من المثليات ، وفي الخمر يجب مثله خلا ; لأنه مثلي كما لو هلك المسمى أو استحق .

( وجه ) قول محمد في الفرق أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعتا في العقود ، فإن كان المشار إليه من جنس المسمى يتعلق العقد بالمشار إليه ، وإن كان من خلاف جنسه يتعلق العقد بالمسمى هذا أصل مجمع عليه في البيع على ما نذكر في البيوع ، والحر من جنس العبد لاتحاد جنس المنفعة .

وكذا الشاة الميتة من جنس الشاة الذكية فكانت العبرة للإشارة والتحقت التسمية بالعدم ، والمشار إليه لا يصلح مهرا فصار كأنه اقتصر على الإشارة ولم يسم بأن قال : تزوجتك على هذا وسكت فأما الخل مع الخمر فجنسان مختلفان ; لاختلاف جنس المنفعة فتعلق العقد بالمسمى لكن تعذر تسليمه وهو مثلي فيجب مثله خلا ولأبي حنيفة أن الإشارة والتسمية كل واحد منهما وضعت للتعريف إلا أن الإشارة أبلغ في التعريف ; لأنها تحضر العين وتقطع الشركة ، والتسمية لا توجب إحضار العين ولا تقطع الشركة فسقط اعتبار التسمية عند الإشارة وبقيت الإشارة ، والمشار إليه لا يصلح مهرا ; لأنه ليس بمال فيجب مهر المثل كما لو أشار إلى الميتة والدم والخمر والخنزير ولم يسم ، وحقيقة الفقه لأبي حنيفة أن هذا حر سمى عبدا ، وتسمية الحر عبدا باطل ; لأنه كذب فالتحقت التسمية بالعدم وبقيت الإشارة ، والمشار إليه لا يصلح مهرا ; لأنه ليس بمال فالتحقت الإشارة بالعدم أيضا فصار كأنه تزوجها ، ولم يسم لها مهرا ، وهذا فقه واضح بحمد الله تعالى هذا إذا سمى ما يصلح مهرا ، وأشار إلى ما لا يصلح مهرا فأما إذا سمى ما لا يصلح مهرا ، وأشار إلى ما يصلح مهرا بأن قال : تزوجتك على هذا الحر فإذا هو عبد أو على هذه الميتة ، فإذا هي ذكية أو على هذا الدن الخمر ، فإذا هو خل ، فقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أن التسمية فاسدة ولها المشار إليه .

وروى محمد عنه أن لها مهر المثل ، ورواية أبي يوسف أصح الروايتين ; لأن الأصل عند أبي حنيفة أن التسمية لا حكم لها مع الإشارة في باب النكاح فكانت العبرة للإشارة ، والمشار إليه يصلح مهرا ; لأنه مال فكان لها المشار إليه ( وجه ) ما روى محمد [ ص: 280 ] عنه أنه لما سمى ما لا يصلح مهرا ، وأشار إلى ما يصلح مهرا فقد هزل بالتسمية ، والهازل لا يتعلق بتسميته حكم فبطل كلامه رأسا .

التالي السابق


الخدمات العلمية