بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ولو تزوجها على هذا الدن الخمر ، وقيمة الظرف عشرة دراهم فصاعدا روى ابن سماعة عن محمد في هذه المسألة روايتين روي عنه أن لها الدن لا غير .

وروي عنه أيضا أن لها مهر المثل ( وجه ) الرواية الأولى أنه سمى ما يصلح مهرا - وهو الظرف - وما لا يصلح مهرا وهو الخمر فيلغو ما لا يصلح مهرا كما لو تزوجها على الخل والخمر ، وقيمة الخل عشرة أنه يكون لها الخل لا غير ; لما قلنا كذا هذا ( وجه ) الرواية الأخرى أن الظرف لا يقصد بالعقد عادة بل هو تابع ، وإنما المقصود هو المظروف فإذا بطلت التسمية في المقصود تبطل فيما هو تبع له ، والله أعلم ولو تزوجها على هذين العبدين فإذا أحدهما حر فليس لها إلا العبد الباقي إذا كانت قيمته عشرة دراهم في قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف : لها العبد وقيمة الحر لو كان عبدا .

وقال محمد : ينظر إلى العبد إن بلغت قيمته مهر مثلها فليس لها إلا العبد ، وإن كانت قيمته أقل من مهر مثلها تبلغ إلى ثمن مهر مثلها ، وهو قول زفر ، وهذا بناء على الأصول التي ذكرناها لهم فمن أصل أبي يوسف أن جعل الحر مهرا صحيح إذا سمى عبدا ، ويتعلق بقيمته أن لو كان عبدا فيتعلق العقد بالمسميين جميعا بقدر ما يحتمل كل واحد منهما التعليق به ، فيتعلق بالعبد بعينه ; لأنه ممكن ويتعلق بالحر بقيمته لو كان عبدا ; لأنه لا يحتمل التعليق بعينه ، ومن أصل محمد أن المشار إليه إذا كان من جنس المسمى ، فالعقد يتعلق بالمشار إليه ، والحر من جنس العبد لاتحاد جنس المنفعة فيتعلق العقد بهما إلا أنه لا سبيل إلى الجمع بين المسمى وبين مهر المثل ، فيجب مهر المثل ألا ترى أنه لو كانا حرين يجب مهر المثل عنده ، ومتى وجب مهر المثل امتنع وجوب المسمى ولأبي حنيفة أصلان : أحدهما ما ذكرنا أن الحر إذا جعل مهرا وسمي عبدا لا يتعلق بتسميته شيء ، وجعل ذكره والعدم بمنزلة واحدة ، والثاني : أن العقد إذا أضيف إلى ما لا يصلح يلغو ما لا يصلح ويستقر ما يصلح ، كمن جمع بين امرأة تحل له وامرأة لا تحل له وتزوجهما في عقدة واحدة بمسمى يجب كل المسمى بمقابلة الحلال ، وانعقاد نكاحها صحيحا للعقد ، والتسمية بقدر الإمكان ، وتقريرا للعقد فيما أمكن تقريره وإلغاؤه فيما لا يمكن تصحيحه فيه ، والعبد هو الصالح لكونه مهرا فصحت تسميته ، ويصير مهرا لها إذا بلغت قيمته عشرة فصاعدا ، وعلى هذا الخلاف إذا تزوجها على بيت وخادم - والخادم حر - ولو تزوجها على هذين الدنين من الخل فإذا أحدهما خمر لها الباقي لا غير في قول أبي حنيفة إذا كان يساوي عشرة دراهم كما في العبدين ، وعندهما لها الباقي ومثل هذا الدن من الخل ، وقد ذكرنا الأصل .

ولو سمى مالا وضم إليه ما ليس بمال لكن لها فيه منفعة مثل طلاق امرأة أخرى وإمساكها في بلدها أو العفو عن القصاص ، فإن وفى بالمنفعة فليس لها إلا ما سمى إذا كان يساوي عشرة فصاعدا ; لأنه سمى ما يصلح مهرا بنفسه وشرط لها منفعة ، وقد وفى بما شرط لها فصحت التسمية وصارت العشرة مهرا ، وإن لم يف بالمنفعة فلها مهر مثلها ثم ينظر إن كان ما سمى لها من المال مثل مهر مثلها أو أكثر فلا شيء لها إلا ذلك ، وإن كان ما سمى لها أقل من مهر مثلها تمم لها مهر مثلها عندنا وقال زفر : إن كان المضموم مالا كما إذا شرط أن يهدي لها هدية فلم يف لها تمم لها مهر المثل ، وإن كان غير مال كطلاق امرأة أخرى وأن لا يخرجها من بلدها فليس لها إلا ما سمى ( وجه ) قول زفر أن ما ليس بمال لا يتقوم فلا يكون فواته مضمونا بعوض وما هو مال يتقوم فإذا لم يسلم لها جاز لها الرجوع إلى تمام العوض ، ولنا أن الموجب الأصلي في هذا الباب هو مهر المثل ، فلا يعدل عنه إلا عند استحكام التسمية فإذا وفى بالمنفعة فقد تقررت التسمية فوجب المسمى .

وإذا لم يف بها لم تتقرر ; لأنها ما رضيت بالمسمى من المال عوضا بنفسه بل بمنفعة أخرى مضمومة إليه ، وهي منفعة أخرى مرغوب فيها خلال الاستيفاء شرعا فإذا لم يسلم لها تتقرر التسمية فبقي حقها في العوض الأصلي ، وهو مهر المثل فإن كان أقل من مهر مثلها أو أكثر فليس لها إلا ذلك ; لأنه وصل إليها قدر حقها وإن كان أقل من مهر مثلها يكمل لها مهر مثلها أيضا لا إلى الحق المستحق فرق [ ص: 281 ] بين هذا وبين ما إذا تزوجها على مهر صحيح وأرطال من خمر أن المهر ما يسمى لها إذا كان عشرة فصاعدا ، ويبطل الحرام ، وليس لها تمام مهر مثلها أو أكثر فليس لها إلا ذلك ; لأنه وصل إليها قدر حقها ، وإن كان أقل من مهر مثلها يكمل لها مهر مثلها أيضا ; لأن تسمية الخمر لم تصح في حق الانتفاع بها في حق المسلم إذ لا منفعة للمسلم فيها لحرمة الانتفاع بها في حق المسلم ; فلا يجوز أن يجب بفواتها عوض فالتحقت تسميتها بالعدم وصار كأنه لم يسم إلا المهر الصحيح فلا يجب لها إلا المهر الصحيح بخلاف المسألة الأولى .

وعلى هذا يخرج ما إذا أعتق أمته على أن تزوج نفسها منه فقبلت عتقت ; لأنه أعتقها بعوض فيزول ملكه بقبول العوض كما لو باعها ، وكما إذا قال لها أنت حرة على ألف درهم بخلاف ما إذا قال لعبده إن أديت إلي ألفا فأنت حر أنه لا يعتق بالقبول ما لم يؤد ; لأن ذلك ليس بمعاوضة بل هو تعليق ، وهو تعليق الحرية بشرط الأداء إليه ولم يوجد الشرط ثم إذا أعتقت بالقبول فبعد ذلك لا يخلو إما إن زوجت نفسها منه وإما إن أبت التزويج فإن زوجت نفسها منه ينظر إن كان قد سمى لها مهرا آخر وهو مال سوى الإعتاق ، فلها المسمى إذا كان عشرة دراهم فصاعدا ، وإن كان دون العشرة تكمل عشرة ، وإن لم يسم لها سوى الإعتاق فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة ومحمد .

وقال أبو يوسف : صداقها إعتاقها ليس لها غير ذلك ( وجه ) قوله : أن العتق بمعنى المال وبدليل أنه يجوز أخذ العوض عنه بأن أعتق عبده على مال فجاز أن يكون مهرا ، ولهما أن العتق ليس بمال حقيقة ; لأن الإعتاق إبطال المالكية فكيف يكون العتق مالا ؟ إلا أنه يجوز أخذ عوض هو مال عنه ، وهذا لا يدل على كونه مالا بنفسه ألا ترى أن الطلاق ليس بمال ولا يجوز أخذ العوض عنه .

وكذا القصاص وأخذ البدل عنه جائز ، ونفس الحر ليست بمال ، وإن أبت أن تزوج نفسها منه لا تجبر على ذلك ; لأنها حرة ملكت نفسها فلا تجبر على النكاح لكنها تسعى في قيمتها للمولى عند أصحابنا الثلاثة .

وقال زفر : لا سعاية عليها ( وجه ) قوله : أن السعاية إنما تجب لتخليص الرقبة ، وهذه حرة خالصة فلا تلزمها السعاية .

( ولنا ) أن المولى ما رضي بزوال ملكه عن رقبتها لا بنفع يقابله وهو تزويج نفسها منه ، وهذه منفعة مرغوب فيها وقد تعذر عليه استيفاء هذه المنفعة بمعنى من جهتها - وهو إباؤها - فيقام بدل قيمتها مقامها ; دفعا للضرر عنه .

وأما قوله ( السعاية إنما تجب لفكاك الرقبة وتخليصها - وهي حرة خالصة - ) فنقول : السعاية قد تكون لتخليص الرقبة وهذا المستسعى يكون في حكم المكاتب على أصل أبي حنيفة ، وقد تكون لحق في الرقبة لا لفكاك الرقبة كالعبد المرهون إذا أعتقه الراهن وهو معسر كما إذا قال لعبده : أنت حر على قيمة رقبتك فقبل حتى عتق كذا هذا ولو تزوج امرأة على عتق أبيها أو ذي رحم محرم منها أو على عتق عبد أجنبي عنها ، فهذا لا يخلو إما أن ذكر فيه كلمة عنها بأن قال : أتزوجك على عتق أبيك عنك أو على عتق هذا العبد عنك وأشار إلى عبد أجنبي عنها ، وإما أن لم يذكر فإن لم يذكر وقبلت عتق العبد ، والولاء للزوج لا لها ; لأن المعتق هو الزوج { والولاء لمن أعتق } على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها مهر مثلها إن لم يكن سمى لها مهرا آخر هو مال ، وإن كان قد سمى فلها المسمى ; لأنه علق العتق بقبولها النكاح فإذا قبلت عتق ، والعبد لا يصلح مهرا ; لأنه ليس بمال ، فإن كان هناك مال مسمى وجب ذلك ; لأنه صحت تسميته مهرا فوجب المسمى ، وإن لم يكن فتسميته العتق مهرا لم يصح ; لأنه ليس بمال فيجب مهر المثل هذا إذا لم يذكر عنها .

فأما إذا ذكرت فقبلت عتق العبد عنها وثبت الولاء لها ، وصار ذلك مهرا ; لأنه لما ذكر العتق عنها ولا يكون العتق عنها إلا بعد سبق الملك لها فملكته أولا ثم عتق عنها كمن قال لآخر : أعتق عبدك عني عن كفارة يميني على ألف درهم يجوز ويقع العتق عن الآخر ، وحال ما ملكته كان مالا فصلح أن يكون مهرا ، وهذا إذا تزوجها على العتق .

فأما إذا تزوجها على الإعتاق بأن تزوجها على أن يعتق هذا العبد فهذا أيضا لا يخلو من أحد وجهين : إما أن ذكر فيه عنها وإما أن لم يذكر فإن لم يذكر فقبلت صح النكاح ، ولا يعتق العبد ههنا بقبولها ; لأنه وعد أن يعتق ، والعتق لا يثبت بوعد [ ص: 282 ] الإعتاق ، وإنما يثبت بالإعتاق فما لم يعتق لا يعتق بخلاف الفصل الأول ; لأن الزواج هناك كان على العتق لا على الإعتاق ثم إذا أعتقه فعتق فلا يخلو إما أن ذكر كلمة عنها أو لم يذكر فإن كان لم يذكر ثبت الولاء منه لا منها ; لأن الإعتاق منه لا منها ، والولاء للمعتق ولها مهر مثلها إن لم يكن هناك مهر آخر مسمى وهو مال ، وإن كان فلها ذلك المسمى ; لأن الإعتاق ليس بمال ، بل هو إبطال المالية ، سواء كان العبد أجنبيا أو ذا رحم محرم منها ، وإن ذكر كلمة عنها ثبت الولاء منها ; لأن الإعتاق منها لأنه أعتق عنها ، ويصير العبد ملكا لها بمقتضى الإعتاق ، ثم إن كان ذا رحم محرم منها عتق عليها كما ملكته فتملكه فيعتق عليها ، وإن كان أجنبيا يصير الزوج وكيلا عنها في الإعتاق ، ومنها إذا أعتق كما وعد فإن أبى لا يجبر على ذلك ; لأنه حر مالك إلا أنه ينظر إن لم يكن ثمة مسمى هو مال فلها مهر مثلها ; لما ذكرنا أن تسمية الإعتاق مهرا لم يصح ولم يوجد تسمية شيء آخر هو مال فتعين مهر المثل موجبا .

وإن كان قد سمى لها شيئا آخر هو مال ، فإن كان المسمى مثل مهر المثل أو أكثر فلها ذلك المسمى ; لأن الزوج رضي بالزيادة ، وإن كان أقل من مهر مثلها ، فإن كان العبد أجنبيا فلها ذلك المسمى لا غير ; لأنه شرط لها شرطا لا منفعة لها فيه فلا يكون غارا لها بترك الوفاء بما شرط لها ، وإن كان ذا رحم محرم منها يبلغ به تمام مهر مثلها ; لأنها إنما رضيت بدون مهر مثلها بما شرط ولم تكن راضية فصار غارا لها ، وهذا إذا لم يقل عنها فأما إذا قال ذلك بأن تزوجها على أن يعتق هذا العبد عنها فقبلت صح النكاح ، وصار العبد ملكا ثم إن كان ذا رحم محرم منها عتق عليها ; لأنها ملكت ذا رحم محرم منها وكان ذلك مهرا لها ; لأنها تملكه ثم يعتق عليها ، وإن كان أجنبيا يكون الزوج وكيلا عنها بالإعتاق ، فإن أعتق قبل العزل فقد وقع العتق عنها ، وإن عزلته في ذلك صح العزل والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية