بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما الثاني فالنكاح الذي الكفاءة فيه شرط لزومه هو إنكاح المرأة نفسها من غير رضا الأولياء لا يلزم [ ص: 318 ] حتى لو زوجت نفسها من غير كفء من غير رضا الأولياء لا يلزم .

وللأولياء حق الاعتراض ; لأن في الكفاءة حقا للأولياء ; لأنهم ينتفعون بذلك ألا ترى أنهم يتفاخرون بعلو نسب الختن ، ويتعيرون بدناءة نسبه ، فيتضررون بذلك ، فكان لهم أن يدفعوا الضرر عن أنفسهم بالاعتراض كالمشتري إذا باع الشقص المشفوع ، ثم جاء الشفيع كان له أن يفسخ البيع ، ويأخذ المبيع بالشفعة دفعا للضرر عن نفسه كذا هذا .

ولو كان التزويج برضاهم يلزم حتى لا يكون لهم حق الاعتراض ; لأن التزويج من المرأة تصرف من الأهل في محل هو خالص حقها ، وهو نفسها ، وامتناع اللزوم كان لحقهم المتعلق بالكفاءة ، فإذا رضوا ، فقد أسقطوا حق أنفسهم ، وهم من أهل الإسقاط ، والمحل قابل للسقوط ، فيسقط .

ولو رضي به بعض الأولياء سقط حق الباقين في قول أبي حنيفة ، ومحمد ، وعند أبي يوسف لا يسقط .

وجه قوله أن حقهم في الكفاءة ثبت مشتركا بين الكل ، فإذا رضي به أحدهم ، فقد أسقط حق نفسه ، فلا يسقط حق الباقين كالدين إذا وجب لجماعة ، فأبرأ بعضهم لا يسقط حق الباقين لما قلنا كذا هذا ; ولأن رضا أحدهم لا يكون أكثر من رضاها ، فإن زوجت نفسها من غير كفء بغير رضاهم لا يسقط حق الأولياء برضاها ، فلأن لا يسقط برضا أحدهم أولى ، ولهما أن هذا حق واحد لا يتجزأ ثبت بسبب لا يتجزأ ، وهو القرابة ، وإسقاط بعض ما لا يتجزأ إسقاط لكله ; لأنه لا بعض له ، فإذا أسقط واحد منهم لا يتصور بقاؤه في حق الباقين كالقصاص إذا وجب لجماعة ، فعفا أحدهم عنه أنه يسقط حق الباقين كذا هذا ; ولأن حقهم في الكفاءة ما ثبت لعينه بل لدفع الضرر ، والتزويج من غير كفء وقع إضرارا بالأولياء من حيث الظاهر ، وهو ضرر عدم الكفاءة ، فالظاهر أنه لا يرضى به أحدهم إلا بعد علمه بمصلحة حقيقية هي أعظم من مصلحة الكفاءة وقف هو عليها ، وغفل عنها الباقون لولاها لما رضي ، وهي دفع ضرر الوقوع في الزنا على تقدير الفسخ .

وأما قوله الحق ثبت مشتركا بينهم ، فنقول على الوجه الأول ممنوع بل ثبت لكل واحد منهم على الكمال كأن ليس معه غيره ; لأن ما لا يتجزأ لا يتصور فيه الشركة كحق القصاص ، والأمان بخلاف الدين ، فإنه يتجزأ فتتصور فيه الشركة ؟ وبخلاف ما إذا زوجت نفسها من غير كفء بغير رضا الأولياء ; لأن هناك الحق متعدد ، فحقها خلاف جنس حقهم ; لأن حقها في نفسها ، وفي نفس العقد ، ولا حق لهم في نفسها ، ولا في نفس العقد ، وإنما حقهم في دفع الشين عن أنفسهم ، وإذا اختلف جنس الحق ، فسقوط أحدهما لا يوجب سقوط الآخر .

وأما على الوجه الثاني ، فمسلم لكن هذا الحق ما ثبت لعينه بل لدفع الضرر ، وفي إبقائه لزوم أعلى الضررين ، فسقط ضرورة ، وكذلك الأولياء لو زوجوها من غير كفء برضاها يلزم النكاح لما قلنا .

ولو زوجها أحد الأولياء من غير كفء برضاها من غير رضا الباقين يجوز عند عامة العلماء خلافا لمالك بناء على أن ولاية الإنكاح ولاية مستقلة لكل واحد منهم عندنا ، وعنده ولاية مشتركة ، وقد ذكرنا المسألة في شرائط الجواز ، وهل يلزم قال أبو حنيفة ، ومحمد : يلزم .

وقال أبو يوسف ، وزفر ، والشافعي : لا يلزم ، وجه قولهم على نحو ما ذكرنا فيما تقدم أن الكفاءة حق ثبت للكل على الشركة ، وأحد الشريكين إذا أسقط حق نفسه لا يسقط حق صاحبه كالدين المشترك ، وجه قولهما أن هذا حق واحد لا يتجزأ ثبت بسبب لا يتجزأ ، ومثل هذا الحق إذا ثبت لجماعة يثبت لكل واحد منهم على الكمال كأن ليس معه غيره كالقصاص والأمان ; ولأن إقدامه على النكاح مع كمال الرأي برضاها مع التزام ضرر ظاهر بالقبيلة وبنفسه ، وهو ضرر عدم الكفاءة بلحوق العار والشين دليل كونه مصلحة في الباطن ، وهو اشتماله على دفع ضرر أعظم من ضرر عدم الكفاءة ، وهو ضرر عار الزنا أو غيره لولاه لما فعل .

وأما إنكاح الأب ، والجد الصغير والصغيرة ، فالكفاءة فيه ليست بشرط للزومه عند أبي حنيفة كما أنها ليست بشرط الجواز عنده ، فيجوز ذلك ، ويلزم لصدوره ممن له كمال نظر لكمال الشفقة بخلاف إنكاح الأخ والعم من غير الكفء أنه لا يجوز بالإجماع ; لأنه ضرر محض على ما بينا في شرائط الجواز .

وأما إنكاحهما من الكفء ، فجائز عندنا خلافا للشافعي لكنه غير لازم في قول أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف لازم ، والمسألة قد مرت .

التالي السابق


الخدمات العلمية