بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما خلو الزوج عما سوى هذه العيوب الخمسة من الجب ، والعنة والتأخذ والخصاء والخنوثة ، فهل هو شرط لزوم النكاح ؟ قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ليس بشرط ، ولا يفسخ النكاح به .

وقال محمد : خلوه من كل عيب لا يمكنها المقام معه إلا بضرر كالجنون والجذام والبرص ، شرط لزوم النكاح حتى يفسخ به النكاح ، وخلوه عما سوى ذلك ليس بشرط ، وهو مذهب الشافعي .

( وجه ) قول محمد أن الخيار في العيوب الخمسة إنما ثبت لدفع الضرر عن المرأة وهذه العيوب في إلحاق الضرر بها فوق تلك ; لأنها من الأدواء المتعدية عادة ، فلما ثبت الخيار بتلك ، فلأن يثبت بهذه أولى بخلاف ما إذا كانت هذه العيوب في جانب المرأة ; لأن الزوج ، وإن كان يتضرر بها لكن يمكنه دفع الضرر عن نفسه بالطلاق ، فإن الطلاق بيده ، والمرأة لا يمكنها ذلك ; لأنها لا تملك الطلاق ، فتعين الفسخ طريقا لدفع الضرر ، ولهما أن الخيار في تلك العيوب ثبت لدفع ضرر فوات حقها المستحق بالعقد ، وهو الوطء مرة واحدة ، وهذا الحق لم يفت بهذه العيوب ; لأن الوطء يتحقق من الزوج مع هذه العيوب ، فلا يثبت الخيار هذا في جانب الزوج .

( وأما ) في جانب المرأة ، فخلوها عن العيب ليس بشرط للزوم النكاح بلا خلاف بين أصحابنا حتى لا يفسخ النكاح بشيء من العيوب الموجودة فيها .

وقال الشافعي : خلو المرأة عن خمسة عيوب بها شرط اللزوم ، ويفسخ النكاح بها ، وهي الجنون والجذام والبرص والرتق والقرن ، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { فر من المجذوم فرارك من الأسد } ، والفسخ طريق الفرار .

ولو لزم النكاح لما أمر بالفرار ، وروي { أنه صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة ، فوجد بياضا في كشحها فردها وقال : لها الحقي بأهلك } ، .

ولو وقع النكاح لازما لما رد ; ولأن مصالح النكاح لا تقوم مع هذه العيوب أو تختل بها ; لأن بعضها مما ينفر عنها الطباع السليمة وهو الجذام والجنون والبرص فلا تحصل الموافقة فلا تقوم المصالح أو تختل وبعضها مما يمنع من الوطء وهو الرتق والقرن ، وعامة مصالح النكاح يقف حصولها على الوطء ، فإن العفة عن الزنا والسكن والولد لا يحصل إلا بالوطء ولهذا يثبت الخيار في العيوب الأربعة كذا ههنا .

( ولنا ) أن النكاح لا يفسخ بسائر العيوب ، فلا يفسخ بهذه العيوب أيضا ; لأن المعنى يجمعها ، وهو أن العيب لا يفوت ما هو حكم هذا العقد من جانب المرأة ، وهو الازدواج الحكمي ، وملك الاستمتاع ، وإنما يختل ، ويفوت به بعض ثمرات العقد ، وفوات جميع ثمرات هذا العقد لا يوجب حق الفسخ بأن مات أحد الزوجين عقيب العقد حتى يجب عليه كمال المهر ، ففوات بعضها أولى وهذا ; لأن الحكم الأصلي للنكاح هو الازدواج الحكمي ، وملك الاستمتاع شرع مؤكدا له ، والمهر يقابل [ ص: 328 ] إحداث هذا الملك ، وبالفسخ لا يظهر أن إحداث الملك لم يكن ، فلا يرتفع ما يقابل ، وهو المهر ، فلا يجوز الفسخ ، ولا شك أن هذه العيوب لا تمنع من الاستمتاع أما الجنون ، والجذام ، والبرص ، فلا يشكل ، وكذلك الرتق والقرن ; لأن اللحم يقطع والقرن يكسر ، فيمكن الاستمتاع بواسطة لهذا المعنى لم يفسخ بسائر العيوب كذا هذا .

وأما الحديث الأول ، فنقول بموجبه أنه يجب الاجتناب عنه ، والفرار يمكن بالطلاق لا بالفسخ ، وليس فيه تعيين طريق الاجتناب والفرار ، وأما الثاني ، فالصحيح من الرواية أنه قال : لها الحقي بأهلك ، وهذا من كنايات الطلاق عندنا ، والكلام في الفسخ والرد المذكور فيه قول الراوي ، فلا يكون حجة أو تحمله على الرد بالطلاق عملا بالدلائل صيانة لها عن التناقض ، والله تعالى الموفق .

وخلو النكاح من خيار الرؤية ليس بشرط للزوم النكاح حتى لو تزوج امرأة ، ولم يرها لا خيار له إذا رآها بخلاف البيع .

وكذا خلوه عن خيار الشرط سواء جعل الخيار للزوج أو للمرأة أو لهما ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر حتى لو تزوج بشرط الخيار بطل الشرط ، وجاز النكاح .

التالي السابق


الخدمات العلمية