بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ومنها إباء الزوج الإسلام بعد ما أسلمت زوجته في دار الإسلام ، ومنها إباء الزوجة الإسلام بعد ما أسلم زوجها المشرك أو المجوسي في دار الإسلام .

وجملة الكلام فيه أن الزوجين الكافرين إذا أسلم أحدهما في دار الإسلام ، فإن كانا كتابيين ، فأسلم الزوج ، فالنكاح بحاله ; لأن الكتابية محل لنكاح المسلم ابتداء ، فكذا بقاء ، وإن أسلمت المرأة لا تقع الفرقة بنفس الإسلام عندنا ، ولكن يعرض الإسلام على زوجها ، فإن أسلم بقيا على النكاح ، وإن أبى الإسلام ، فرق القاضي بينهما ; لأنه لا يجوز أن تكون المسلمة تحت نكاح الكافر ، ولهذا لم يجز نكاح الكافر المسلمة ابتداء ، فكذا في البقاء عليه ، وإن كانا مشركين أو مجوسيين ، فأسلم أحدهما أيهما كان يعرض الإسلام على الآخر ، ولا تقع الفرقة بنفس الإسلام عندنا ، فإن أسلم ; فهما على النكاح ، وإن أبى الإسلام ; فرق القاضي بينهما ; لأن المشركة لا تصلح لنكاح المسلم غير أن الإباء إن كان من المرأة يكون فرقة بغير طلاق ; لأن الفرقة جاءت من قبلها ، وهو الإباء من الإسلام ، والفرقة من قبل المرأة لا تصلح طلاقا ; لأنها لا تلي الطلاق ، فيجعل فسخا ، وإن كان الإباء من الزوج يكون فرقة بطلاق [ ص: 337 ] في قول أبي حنيفة ، ومحمد

وعند أبي يوسف يكون فرقة بغير طلاق ، وهذا كله مذهب أصحابنا وقال الشافعي : إذا أسلم أحد الزوجين ، وقعت الفرقة بنفس الإسلام غير أنه إن كان ذلك قبل الدخول تقع الفرقة للحال بعد الدخول ، فلا تقع الفرقة حتى تمضي ثلاث حيض ، فإن أسلم الآخر قبل مضيها ; فالنكاح بحاله ، وإن لم يسلم ; بانت بمضيها أما الكلام مع الشافعي ، فوجه قوله إن كفر الزوج يمنع من نكاح المسلمة ابتداء حتى لا يجوز للكافر أن ينكح المسلمة ، وكذلك شرك المرأة ، وتمجسها مانع من نكاح المسلم ابتداء بدليل أنه لا يجوز للمسلم نكاح المشركة ، والمجوسية ، فإذا طرأ على النكاح يبطله ، فأشبه الطلاق .

( ولنا ) إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، فإنه روي أن رجلا من بني تغلب أسلمت امرأته ، فعرض عمر رضي الله عنه عليه الإسلام ، فامتنع ، ففرق بينهما ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ، فيكون إجماعا .

ولو وقعت الفرقة بنفس الإسلام لما وقعت الحاجة إلى التفريق ; ولأن الإسلام لا يجوز أن يكون مبطلا للنكاح ; لأنه عرف عاصما للأملاك ، فكيف يكون مبطلا لها ، ولا يجوز أن يبطل بالكفر أيضا ; لأن الكفر كان موجودا منهما ، ولم يمنع ابتداء النكاح ، فلأن لا يمنع البقاء وأنه أسهل أولى إلا أنا لو بقينا النكاح بينهما لا تحصل المقاصد ; لأن مقاصد النكاح لا تحصل إلا بالاستفراش ، والكافر لا يمكن من استفراش المسلمة ، والمسلم لا يحل له استفراش المشركة والمجوسية لخبثهما ، فلم يكن في بقاء هذا النكاح فائدة ، فيفرق القاضي بينهما عند إباء الإسلام ; لأن اليأس عن حصول المقاصد يحصل عنده .

وأما الكلام مع أصحابنا في كيفية الفرقة عند إباء الزوج الإسلام بعد ما أسلمت امرأته المشركة أو المجوسية أو الكتابية ، فوجه قول أبي يوسف أن هذه فرقة يشترك في سببها الزوجان ، ويستويان فيه ، فإن الإباء من كل واحد منهما سبب الفرقة ، ثم الفرقة الحاصلة بإبائها فرقة بغير طلاق ، فكذا بإبائه لاستوائهما في السببية كما إذا ملك أحدهما صاحبه ، ولهما أن الحاجة إلى التفريق عند الإباء لفوات مقاصد النكاح ولأن مقاصد النكاح إذا لم تحصل لم يكن في بقاء النكاح فائدة ، فتقع الحاجة إلى التفريق ، والأصل في التفريق هو الزوج ; لأن الملك له ، والقاضي ينوب منابه كما في الفرقة بالجب والعنة فكان الأصل في الفرقة هو فرقة الطلاق ، فيجعل طلاقا ما أمكن ، وفي إباء المرأة لا يمكن ; لأنها لا تملك الطلاق ، فيجعل فسخا .

التالي السابق


الخدمات العلمية