بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ولو قال لامرأته أنت طالق في الدار أو في مكة فالأصل فيه أن كلمة في مكة ظرف فإن دخلت على ما يصلح ظرفا تجري على حقيقتها وإن دخلت على ما لا يصلح ظرفا تجعل مجازا عن الشرط لمناسبة بين الظرف وبين الشرط ، ثم الظرف نوعان ظرف زمان وظرف مكان فإن دخلت على المكان وقع الطلاق في ذلك المكان وفي غيره بأن قال لامرأته أنت طالق في الدار أو في مكة وقع الطلاق وإن لم تكن المرأة في الدار ولا في مكة لأن الطلاق لا يختص بمكان دون مكان فإذا وقع في مكان وقع في الأماكن كلها ، وإن دخلت على الزمان فإن كان ماضيا يقع الطلاق في الحال نحو أن يقول أنت طالق في الأمس أو في العام الماضي لأن إنشاء الطلاق في الزمان الماضي لا يتصور فيجعل إخبارا أو تلغو الإضافة إلى الماضي ويبقى قوله أنت طالق فيقع في الحال وكذلك إذا كان حاضرا بأن قال أنت طالق في هذا الوقت أو في هذه الساعة يقع في الحال ، وإن كان مستقبلا لا يقع حتى يأتي بأن قال أنت طالق في غد أو في الشهر الآتي لأن الطلاق يحتمل الاختصاص بوقت دون وقت فإذا جعل الغد ظرفا له لا يقع قبله .

ولو قال أنت طالق في دخولك الدار أو في قيامك أو في قعودك يتعلق بهذه الأفعال لأن الفعل لا يصلح ظرفا ويصلح شرطا فتحمل الكلمة على الشرط مجازا .

وكذا لو قال أنت طالق في ذهابك إلى مكة لأن الذهاب فعل وكذا إذا قال بذهابك لأن الباء حرف إلصاق فيقتضي إلصاق الطلاق بالذهاب وذلك بتعليقه به فيتعلق به ، ولو قال أنت طالق في الشمس وهي في الظل كانت طالقا لأن الشمس لا تصلح ظرفا للطلاق ولا شرطا له .

فإما أن تلغو ويراد بها مكان الشمس والطلاق لا يحتمل التخصيص بمكان دون مكان .

ولو قال أنت طالق في صومك كانت طالقا حين يطلع الفجر إذا نوت الصوم لأن الصوم فعل وهو الإمساك وإنه لا يصلح ظرفا فتجعل الكلمة مجازا عن الشرط ، والفعل يصلح شرطا فإذا وجد في أول الجزء مع النية في وقته من أهله فقد وجد الصوم الشرعي فوجد الشرط فيقع الطلاق .

ولو قال أنت طالق في صلاتك لم تطلق حتى تركع وتسجد سجدة لأن الصلاة فعل أيضا فلا تصلح ظرفا كالصوم إلا أنها اسم لأفعال مختلفة من القيام والقراءة والركوع والسجود والمتركب من أشياء مختلفة لا ينطلق عليه الاسم بوجود بعضها كالأبلق المتركب من السواد والبياض والسكنجبين المتركب عن السكر والخل ونحو ذلك فما لم توجد الأفعال التي وصفنا لا ينطلق عليها اسم فعل الصلاة فلا يحنث بنفس الشروع بخلاف الصوم فإنه اسم لأفعال متفقة الأجزاء وهي الإمساكات ، وما تركب من أجزاء متفقة متجانسة ينطلق اسم كله على بعضه لغة كاسم الماء أنه كما ينطلق على ماء البحر ينطلق على قطرة منه فكان الإمساك في أول النهار إمساكا حقيقة فيقع الطلاق بمجرد الشروع فهو الفرق بينهما .

ولو قال أنت طالق في حيضك أو في طهرك فإن كان موجودا وقع وإلا فلا يقع ويتوقف على وجوده لأن المراد منه وقت الحيض والطهر أي في الوقت الذي تكونين حائضا أو طاهرة فيه ، [ ص: 26 ] ونظير هذه المسائل ما ذكره محمد في الجامع إذا قال أنت طالق في ثلاثة أيام طلقت حين تكلم به .

ولو قال أنت طالق في أكلك هذا الرغيف لا يقع الطلاق ما لم تفرغ من أكل جميع الرغيف والفرق أن في المسألة الأولى دخلت كلمة الظرف على الزمان وهو يصلح ظرفا فجعل جميع الوقت ظرفا لكونها طالقا ولا يكون كذلك إلا إذا كان وقع الطلاق في أوله ، وفي الثانية علق الطلاق بفعل الأكل لأن الفعل لا يصلح ظرفا ويصلح شرطا فصار معلقا الطلاق بفعل الأكل والمعلق بالشرط لا ينزل ما لم ينزل كمال شرطه ، وما يقوله مشايخنا : إن الطلاق متى أضيف إلى وقت ممتد يقع عند أوله ومتى علق بفعل ممتد يقع عند آخره ، هذا صورته وعلته .

ولو قال لها أنت طالق في مجيء ثلاثة أيام فإن قال ذلك ليلا فكلما طلع الفجر من اليوم الثالث يقع الطلاق لأنه علق الطلاق بمجيء ثلاثة أيام ولا يوجد ذلك إلا بمجيء كل واحد منها ، ومجيء اليوم يكون بطلوع الفجر ولو قال ذلك في ضحوة من يوم حلف فإنما يقع الطلاق عند وجود طلوع الفجر من اليوم الرابع لأن اليوم الذي حلف فيه لم يكن معتبرا لتقدم مجيئه على الشرط ، والشيء يتعلق بما يجيء لا بما مضى .

ولو قال أنت طالق في مضي ثلاثة أيام إن قال ذلك ليلا لا يقع الطلاق ما لم تغرب الشمس من اليوم الثالث لأن مضي الشيء يكون بانقضاء جزئه الأخير فمضي الأيام يكون بانقضاء الجزء الأخير منها وذلك يوجد في هذه الساعة وإن قال ذلك في وقت ضحوة من النهار لا تطلق حتى يجيء تلك الساعة من اليوم الرابع لأنه به يتم مضي ثلاثة أيام بالساعات فالعبرة في المضي به لا للأيام الكاملة ، وفي المجيء لأوائلها هذا هو المتعارف .

ولو قال إن شتمتك في المسجد فعبدي حر فإنه يعتبر في هذا كون الشاتم في المسجد حتى يحنث سواء كان المشتوم في المسجد أو غيره ولو قال إن ضربتك أو قتلتك في المسجد يعتبر فيه مكان المضروب والمقتول إن كان في المسجد حنث وإلا فلا ، والأصل فيه أن كل فعل له أثر في المفعول يعتبر فيه مكان المفعول ، وما لا أثر له يظهر في المفعول لا يعتبر فيه مكانه بل مكان الفاعل وعلة هذا الأصل تذكر في الجامع - إن شاء الله تعالى - .

التالي السابق


الخدمات العلمية