بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما الحلف على السكنى والمساكنة والإيواء والبيتوتة أما السكنى فإذا حلف لا يسكن هذه الدار أما إن كان فيها ساكنا أو لم يكن فإن لم يكن فيها ساكنا فالسكنى فيها أن يسكنها بنفسه وينقل إليها من متاعه ما يتأثث به ويستعمله في منزله فإذا فعل ذلك فهو ساكن وحانث في يمينه لأن السكنى هي الكون في المكان على طريق الاستقرار فإن من جلس في المسجد وبات فيه لا يسمى ساكن المسجد ولو أقام فيه بما يتأثث به يسمى به فدل أن السكنى ما ذكرنا وذلك إنما يكون بما يسكن به في العادة وذلك ما قلنا وإن كان فيها ساكنا فحلف لا يسكنها فإنه لا يبر حتى ينتقل عنها بنفسه وأهله وولده الذين معه ومتاعه ومن كان يأويها لخدمته والقيام بأمره في منزله فإن لم يفعل ذلك ولم يأخذ في النقلة من ساعته وهي ممكنة حنث .

ههنا ثلاثة فصول أحدها إذا حلف لا يسكن فانتقل بأهله ومتاعه في الحال لم يحنث في قول أصحابنا الثلاثة وعند زفر يحنث وهو على الخلاف الذي ذكرنا في الراكب حلف لا يركب واللابس حلف لا يلبس فنزل ونزع في الحال وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم والثاني إذا انتقل بنفسه ولم ينتقل بأهله ومتاعه قال أصحابنا يحنث .

وقال الشافعي لا يحنث وجه قوله إن شرط حنثه سكناه ولم يسكن فلا يحنث كما لو حلف لا يسكن في بلد فخرج بنفسه وترك أهله فيه .

وقال الشافعي محتجا علينا إذا خرجت من مكة وخلفت دفيترات بها أفأكون ساكنا بمكة ولنا أن سكنى الدار إنما يكون بما يسكن به في العادة لما ذكرنا أنه اسم للكون على وجه الاستقرار ولا يكون الكون على هذا الوجه إلا بما يسكن به عادة فإذا حلف لا يسكنها وهو فيها فالبر في إزالة ما كان به ساكنا فإذا لم يفعل حنث وهذا لأنه بقوله لا أسكن هذه الدار فقد منع نفسه عن سكنى الدار وكره سكناها لمعنى يرجع إلى الدار والإنسان كما يصون نفسه عما يكره يصون أهله عنه عادة فكانت يمينه واقعة على السكنى وما يسكن به عادة فإذا خرج بنفسه وترك أهله ومتاعه فيه ولم يوجد شرط البر فيحنث .

والدفاتر لا يسكن بها في الدور عادة فبقاؤها لا يوجب بقاء السكنى فهذا كان تشنيعا في غير موضعه ولأن من حلف لا يسكن هذه الدار فخرج بنفسه وأهله ومتاعه فيها يسمى في العرف والعادة ساكن الدار ألا ترى أنه إذا قيل له وهو في السوق أين تسكن ؟ يقول في موضع كذا وإن لم يكن هو فيه وبهذا فارق البلد لأنه يقال لمن بالبصرة إنه ساكن بالكوفة والثالث أنه إذا انتقل بنفسه وأهله وماله ومتاعه وترك من أثاثه شيئا يسيرا قال أبو حنيفة يحنث .

وقال أبو يوسف إذا كان المتاع المتروك لا يشغل بيتا ولا بعض الدار لا يحنث ولست أجد في هذا حدا وإنما هو على الاستحسان وعلى ما يعرفه الناس .

وقيل معنى قول أبي حنيفة إذا ترك [ ص: 73 ] شيئا يسيرا يعني ما لا يعتد به ويسكن بمثله .

فأما إذا خلف فيها وتدا أو مكنسة لم يحنث لأبي يوسف أن اليسير من الأثاث لا يعتد به لأنه يسكن بمثله فصار كالوتد ولأبي حنيفة إن شرط البر إزالة ما به صار ساكنا فإذا بقي منه شيء لم يوجد شرط البر بكماله فيحنث فإن منع من الخروج والتحول بنفسه ومتاعه وأوقعوه وقهروه لا يحنث وإن أقام على ذلك أياما لأنه ما يسكنها بل أسكن فيها فلا يحنث ولأن البقاء على السكنى يجري مجرى الابتداء ومن حلف لا يسكن هذه الدار وهو خارج الدار فحمل إليها مكرها لم يحنث كذا البقاء إذا كان بإكراه .

وقال محمد إذا خرج من ساعته وخلف متاعه كله في المسكن فمكث في طلب المنزل أياما ثلاثا فلم يجد ما يستأجره وكان يمكنه أن يخرج من المنزل ويضع متاعه خارج الدار لا يحنث لأن هذا من عمل النقلة إذ النقلة محمولة على العادة والمعتاد هو الانتقال من منزل إلى منزل ولأنه ما دام في طلب المنزل فهو متشاغل بالانتقال كما لو خرج يطلب من يحمل رحله وقال محمد إن كان الساكن موسرا وله متاع كثير وهو يقدر على أنه يستأجر من ينقل متاعه في يوم فلم يفعل وجعل ينقل بنفسه الأول فالأول فمكث في ذلك سنة قال إن كان النقلان لا يفترانه لا يحنث لأن الحنث يقع بالاستقرار بالدار والمتشاغل بالانتقال غير مستقر ولأنه لا يلزمه الانتقال على أسرع الوجوه ألا ترى أنه بالانتقال المعتاد لا يحنث وإن كان غيره أسرع منه فإن تحول ببدنه .

وقال ذلك أردت فإن كان حلف لا يسكن هذه الدار وهو ساكن فيها لا يدين في القضاء لأنه خلاف الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه نوى ما يحتمله كلامه وإن كان حلف وهو غير ساكن .

وقال نويت الانتقال ببدني دين لأنه نوى ما يحتمله وفيه تشديد على نفسه وأما المساكنة فإذا كان رجل ساكنا مع رجل في دار فحلف أحدهما أن لا يساكن صاحبه فإن أخذ في النقلة وهي ممكنة وإلا حنث والنقلة على ما وصفت لك إذا كان ساكنا في الدار فحلف لا يسكنها لأن المساكنة هي أن يجمعهما منزل واحد فإذا لم ينتقل في الحال فالبقاء على المساكنة مساكنة فيحنث فإن وهب الحالف متاعه للمحلوف عليه أو أودعه أو أعاره ثم خرج في طلب منزل فلم يجد منزلا أياما ولم يأت الدار التي فيها صاحبه قال محمد إن كان وهب له المتاع وقبضه منه وخرج من ساعته وليس من رأيه العود إليه فليس بمساكن له فلا يحنث وكذلك إن أودعه المتاع ثم خرج لا يريد العود إلى ذلك المنزل وكذلك العارية لأنه إذا وهبه وأقبضه وخرج فليس بمساكن إياه بنفسه ولا بماله وإذا أودعه فليس بساكن به فلا يحنث وكذلك إن أودعه المتاع ثم خرج وإنما هو في يد المودع وكذلك إذا أعاره فلا يحنث ولو كان له في الدار زوجة فراودها على الخروج فأبت وامتنعت وحرص على خروجها واجتهد فلم تفعل فإنه لا يحنث إذا كانت هذه حالها لأنه لو بقي هو في الدار مكرها لم يحنث لعدم اختياره السكنى به فكذا إذا بقي ما يسكن به بغير اختياره وإذا حلف لا يساكن فلانا فساكنه في عرصة دار أو بيت أو غرفة حنث لأن المساكنة هي القرب والاختلاط فإذا سكنها في موضع يصلح للسكنى فقد وجد الفعل المحلوف عليه فيحنث فإن ساكنه في دار هذا في حجرة وهذا في حجرة أو هذا في منزل وهذا في منزل حنث إلا أن يكون دارا كبيرة قال أبو يوسف مثل دار الرقيق ونحوها ودار الوليد بالكوفة فإنه لا يحنث وكذا كل دار عظيمة فيها مقاصير ومنازل .

وقال هشام عن محمد إذا حلف لا يساكن فلانا ولم يسم دارا فسكن هذا في حجرة وهذا في حجرة لم يحنث إلا أن يساكنه في حجرة واحدة قال هشام قلت فإن حلف لا يساكنه في هذه الدار فسكن هذا في حجرة وهذا في حجرة قال يحنث لمحمد أن الحجرتين المختلفتين كالدارين بدليل أن السارق من إحداهما إذا نقل المسروق إلى الأخرى قطع وليس كذلك إذا حلف لا يساكنه في دار لأنه حلف على أن لا يجمعهما دار واحدة وقد جمعتهما وإن كانا في حجرها ولأبي يوسف أن المساكنة هي الاختلاط والقرب فإذا كانا في حجرتين في دار صغيرة فقد وجد القرب فهو كبيتين من دار وإن كانا في حجرتين من دار عظيمة فلا يوجد القرب فهو كدارين في محلة فإن سكن هذا في بيت من دار وهذا في بيت وقد حلف لا يساكنه ولم يسم دارا حنث في قولهم لأن بيوت الدار الواحدة كالبيت الواحد ألا ترى أن السارق لو نقل المسروق [ ص: 74 ] من أحد البيتين إلى الآخر لم يقطع .

وقال أبو يوسف فإن ساكنه في حانوت في السوق يعملان فيه عملا أو يبيعان فيه تجارة فإنه لا يحنث وإنما اليمين على المنازل التي هي المأوى وفيها الأهل والعيال .

فأما حوانيت البيع والعمل فليس يقع اليمين عليها إلا أنه ينوي أو يكون بينهما قبل اليمين بدل يدل عليها فتكون اليمين على ما تقدم من كلامهما ومعانيهما لأن السكنى عبارة عن المكان الذي يأوي إليه الناس في العادة ألا ترى أنه لا يقال فلان يسكن السوق وإن كان يتجر فيها فإنه جعل السوق مأواه قيل إنه يسكن السوق فإن كان هناك دلالة تدل على أنه أراد باليمين ترك المساكنة في السوق حملت اليمين على ذلك وإن لم يكن هناك دلالة فقال نويت المساكنة في السوق أيضا فقد شدد على نفسه قالوا إذا حلف لا يساكن فلانا بالكوفة ولا نية له فسكن أحدهما في دار والآخر في دار أخرى في قبيلة واحدة أو محلة واحدة أو درب فإنه لا يحنث حتى تجمعهما السكنى في دار لأن المساكنة هي المقاربة والمخالطة ولا يوجد ذلك إذا كانا في دارين وذكر الكوفة لتخصيص اليمين بها حتى لا يحنث بمساكنته في غيرها فإن قال نويت أن لا أسكن الكوفة والمحلوف عليه بالكوفة صدق لأنه شدد على نفسه وكذلك إذا حلف لا يساكنه في الدار فاليمين على المساكنة في دار واحدة على ما بينا ولو أن ملاحا حلف لا يساكن فلانا في سفينة واحدة ومع كل واحد منهما أهله ومتاعه واتخذها منزله فإنه يحنث وكذلك أهل البادية إذا جمعتهم خيمة .

وإن تفرقت الخيام لم يحنث وإن تقاربت لأن السكنى محمولة على العادة وعادة الملاحين السكنى في السفن وعادة أهل البادية السكنى في الأخبية فتحمل يمينهم على عاداتهم وأما الإيواء فإذا حلف لا يأوي مع فلان أو لا يأوي في مكان أو دار أو في بيت فالإيواء الكون ساكنا في المكان فأوى مع فلان في مكان قليلا كان المكث أو كثيرا ليلا كان أو نهارا حنث وهو قول أبي يوسف الأخير وقول محمد إلا أن يكون نوى أكثر من ذلك يوما أو أكثر فيكون على ما نوى وروى ابن رستم في رجل حلف بالطلاق لا يأويه وفلانا بيت وذلك لأن الإيواء عبارة عن المصير في الموضع قال الله عز وجل : { سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } أي ألتجئ وذلك موجود في قليل الوقت وكثيره وقد كان قول أبي يوسف الأول : إن الإيواء مثل البيتوتة وإنه لا يحنث حتى يقيم في المكان أكثر الليل لأنهم يذكرون الإيواء كما يذكرون البيتوتة فيقولون فلان يأوي في هذه الدار كما يقولون يبيت فيها وأما إذا نوى أكثر من ذلك فالأمر على ما نوى لأن اللفظ محتمل فإنهم يذكرون الإيواء ويريدون به السكنى والمقام وقد روى ابن رستم عن محمد في رجل قال إن آواني وإياك بيت أبدا على طرفة عين في قول أبي يوسف الأخير وقولنا إلا أن يكون نوى أكثر من ذلك يوما أو أكثر فالأمر على ما نوى لأن اللفظ يوما أو أكثر .

وقال ابن سماعة عن أبي يوسف إذا حلف لا يأوي فلانا وقد كان المحلوف عليه في عيال الحالف ومنزله لا يحنث إلا أن يعيد المحلوف عليه مثل ما كان وإن لم يكن المحلوف عليه في عيال الحالف فهذا على نية الحالف إن نوى أن لا يعوله فهو كما نوى وكذلك إن نوى لا يدخله عليه بيته لأن قوله لا يأويه يذكر ويراد به ضمه إلى نفسه ومنزله وقد يراد به القيام بأمره فإن كان في اللفظ دليل على شيء وإلا يرجع إلى بيته فإن دخل المحلوف عليه بغير إذنه فرآه فسكت لم يحنث لأنه حلف على فعل نفسه فإذا لم يأمره لم يوجد فعله .

وقال عمر وعن محمد الإيواء عند البيتوتة والسكنى فإن نوى المبيت فهو على ذهاب الأكثر من الليل وإن لم ينو شيئا فهو على ذهاب ساعة .

( وأما ) البيوتة فإذا حلف لا يبيت مع فلان أو لا يبيت في مكان كذا فالمبيت بالليل حتى يكون فيه أكثر من نصف الليل وإذا كان أقل لم يحنث وسواء نام في الموضع أو لم ينم لأن البيتوتة عبارة عن الكون في مكان أكثر من نصف الليل ألا يرى أن الإنسان يدخل على غيره ليلا يقيم عنده قطعة من الليل ولا يقال بات عنده وإذا أقام أكثر الليل يقال بات عنده ويقال فلان بائت في منزله وإن كان في أول الليل في غيره ولا يعتبر النوم لأن اللفظ لا يقتضيه لغة كما لا يقتضي اليقظة فلم يكن شرطا فيه وقال ابن رستم عن محمد في رجل حلف لا يبيت الليلة في هذه الدار وقد ذهب ثلثا الليل ثم بات بقية الليل قال لا يحنث لأن البيتوتة إذا كانت تقع على أكثر الليل فقد حلف على ما لا يتصور فلا تنعقد يمينه والله عز وجل أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية