بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) الواقع بهذه الألفاظ فإن كان التخيير واحدا ولم يذكر الثلاث في التخيير فلا يقع إلا طلاق واحد - وإن نوى الثلاث في التخيير - ويكون بائنا عندنا إن كان التفويض مطلقا عن قرينة الطلاق .

وقال الشافعي : إذا أراد الزوج بالتخيير الطلاق فاختارت نفسها ونوت الطلاق يقع واحدة رجعية ، وهذا مذهبه في الأمر باليد أيضا وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم فيمن خير امرأته فاختارت زوجها أو اختارت نفسها قال بعضهم : إن اختارت زوجها لا يقع شيء وهو قول عمر وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وزيد بن ثابت رضي الله عنهم .

وروي عن علي رضي الله عنه أنها إذا اختارت زوجها يقع تطليقة رجعية ، والترجيح لقول الأولين لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت { : خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعد ذلك طلاقا } وعن مسروق .

عن عائشة رضي الله عنها : أنها سئلت عن الرجل يخير امرأته يكون طلاقا ؟ فقالت { : خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان طلاقا } ; ولأن التخيير إثبات الخيار في الفراق والبقاء على النكاح .

واختيارها زوجها دليل الإعراض عن ترك النكاح ، والإعراض عن [ ص: 120 ] ترك النكاح استبقاء النكاح فكيف يكون طلاقا ؟ ولو اختارت نفسها قال بعضهم : هي واحدة بائنة وهو أحدي الروايتين عن علي .

وقال بعضهم : هي واحدة رجعية .

وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه : إذا اختارت نفسها فهو ثلاث والترجيح لقول من يقول : يقع بائنا لا رجعيا ولا ثلاثا أما وقوع البائن : فلأن الزوج خيرها بين أن تختار نفسها لنفسها وبين أن تختار نفسها لزوجها ، فإذا اختارت نفسها لنفسها لو كان الواقع رجعيا لم يكن اختيارها نفسها لنفسها ، بل لزوجها ; إذ لزوجها أن يراجعها شاءت أو أبت .

وأما عدم وقوع الثلاث وإن وجدت نية الثلاث في التخيير فلما ذكرنا أن القياس أن لا يقع بالاختيار شيء لأنه ليس من ألفاظ الطلاق وإنما جعل طلاقا بالشرع ضرورة صحة التخيير ، وحق الضرورة يصير مقضيا بالواحدة البائنة ، وإن كان التفويض مقرونا بذكر الطلاق بأن قال لها : اختاري الطلاق فقالت : اخترت الطلاق فهي واحدة رجعية ; لأنه لما صرح بالطلاق فقد خيرها بين نفسها بتطليقة رجعية وبين رد التطليقة كما في قوله : أمرك بيدك فإن ذكر الثلاث في التخيير بأن قال لها : اختاري ثلاثا فقالت : اخترت يقع الثلاث ; لأن التنصيص على الثلاث دليل إرادة اختيار الطلاق ; لأنه هو الذي يتعدد ، فقولها اخترت ينصرف إليه فيقع الثلاث ، ولو كرر التخيير بأن قال لها : اختاري اختاري ونوى بكل واحدة منهما الطلاق فقالت اخترت يقع ثنتان ; لأن كل واحدة منهما تخيير تام بنفسه لوجود ركنه وشرطه وهو النية ، والثاني لا يصلح تفسيرا للأول ; لأن الشيء لا يفسر بنفسه ولا يصلح جوابا أيضا ولا علة ولا حكما للأول ; فيكون كلاما مبتدأ ، والتكرار دليل إرادة الطلاق ، قولها اخترت يكون جوابا لهما جميعا ، والواقع بكل واحد منهما طلاق بائن فيقع تطليقتان بائنتان وكذلك إذا ذكر الثاني بحرف الصلة بأن قال لها : اختاري واختاري أو قال اختاري فاختاري ; لأن الواو والفاء من حروف العطف إلا أن الفاء قد تذكر في موضع العلة وقد تذكر في موضع الحكم ; كما يقال : أبشر فقد أتاك الغوث ، ويقال قد أتاك الغوث فأبشر ، لكن ههنا لا تصلح علة ولا حكما فتكون للعطف ، والمعطوف غير المعطوف عليه هو الأصل ، ولو قال : لها اختاري اختاري اختاري ، أو قال : اختاري واختاري واختاري أو قال اختاري فاختاري فاختاري فقالت : اخترت فهي ثلاث لما قلنا ، ولو قال : لها اختاري اختاري اختاري فقالت اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة فهو ثلاث في قول أبي حنيفة وعندهما يقع واحدة .

وجه قولهما : أنها ما أوقعت إلا واحدة فلا يقع إلا واحدة ; لأن الوقوع باختيارها ولم يوجد منها إلا اختيار واحدة فلا تقع به الزيادة على الواحدة كما لو قال لها : اختاري ثلاثا فقالت : اخترت واحدة ولأبي حنيفة أن الزوج ملكها الثلاث جملة والثلاث جملة ليس فيها أولى ولا وسطى ولا أخيرة فقولها اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة يكون لغوا فيبطل تعيينها ويبقى قوله اخترت وأنه يصلح جواب الكل .

وعلى هذا الخلاف إذا قال لها : اختاري واختاري واختاري أو قال لها : اختاري فاختاري فاختاري فقالت : اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة ، ولو قال لها : اختاري اختاري اختاري أو ذكر التخييرين بحرف الواو أو بحرف الفاء فقالت : قد اخترت اختيارة فهو ثلاث في قولهم جميعا ; لأن معناه اخترت الكل مرة فيقع الثلاث ، وإن لم يوجد ذكر النفس من الجانبين جميعا لما ذكرنا أن التكرار من الزوج دليل إرادة اختيار الطلاق .

وكذا إذا قالت : اخترت الاختيارة أو قالت اخترت مرة أو بمرة أو دفعة أو بدفعة أو بواحدة فهو ثلاث لما قلنا ، ولو قالت : قد طلقت نفسي واحدة أو اخترت نفسي بتطليقة فهي واحدة بائنة لما ذكرنا في الأمر باليد ، ولو قال لها : اختاري اختاري اختاري بألف درهم فقالت اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة فهو ثلاث وعليها ألف درهم في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد لا يقع إلا واحدة غير أنها إن اختارت نفسها بالأخيرة كانت تطليقة واحدة وعليها ألف درهم ، وإن اختارت نفسها بالأولى أو بالوسطى كانت واحدة ولا شيء عليها .

والأصل عند أبي حنيفة أن تعيين الأولى أو الوسطى أو الأخيرة لغو ; لأنه ملكها الثلاث جملة والثلاث المملكة جملة ليس لها أولى ولا وسطى ولا أخيرة فكان التعيين ههنا لغوا فبطل التعيين وبقي قولها اخترت ، ولو قالت : اخترت طلقت ثلاثا وعليها الألف كذا [ ص: 121 ] هذا .

والأصل عندهما أن اختيار الأولى أو الوسطى أو الأخيرة صحيح ولا يقع إلا واحدة غير أنهما يقولان لا يلزمها الألف إلا إذا اختارت الأخيرة ; لأن كل واحد من التخييرات على حدة ; لأنه كلام تام بنفسه ولم يذكر معه حرف الجمع فيجعل الكل كلاما واحدا فبقي كل واحد منهما تخييرا تاما بنفسه فيعطى لكل واحد منهما حكم نفسه .

والبدل لم يذكر إلا في التخيير الأخير فلا يجب إلا باختيار الأخيرة ، ولو ذكر حرف الواو أو حرف الفاء فقال : اختاري واختاري واختاري بألف درهم أو قال : اختاري فاختاري فاختاري بألف درهم فقالت : اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة فعند أبي حنيفة لا يختلف الجواب فتطلق ثلاثا وعليها ألف درهم لما ذكرنا وعندهما لا يقع الطلاق في هذه الصورة ; لأنه لما جمع بين التخييرات الثلاث بحرف الجمع جعل الكل كلاما واحدا وقد أمرها أن تحرم نفسها عليه بألف درهم فلا تملك التحريم بأقل من ذلك ، كما إذا قال لها : طلقي نفسك ثلاثا بألف درهم فطلقت نفسها واحدة أنه لا يقع شيء لما قلنا كذا هذا ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية