بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وإن كرر بحرف العطف فإن نجز الطلاق بأن قال : أنت طالق ثم طالق ثم طالق ، أو قال : أنت طالق فطالق فطالق لا يقع إلا الأول بلا خلاف ; لأنه أوقع الثلاث متفرقا لوجود حروف موضوعة للتفرق ; لأن ثم للترتيب مع التراخي والفاء للترتيب مع التعقيب .

ووقوع الطلقة الأولى يمنع من ترتيب الثانية والثالثة عليها ، وكذلك إذا قال : أنت طالق وطالق وطالق عند عامة العلماء .

وقال مالك : يقع الثلاث .

( وجه ) قوله أن الواو للجمع والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع فكان هذا إيقاع الثلاث جملة واحدة ، كأنه قال : أنت طالق ثلاثا .

( ولنا ) أن الواو للجمع المطلق ، والجمع المطلق في الوجود لا يتصور ، بل يكون وجوده على أحد الوضعين عينا ، إما القران وإما الترتيب فإن كان الوقوع بصفة الترتيب لا يقع إلا الأول ، وإن كان بصفة القران يقع الثاني والثالث فيقع الشك في وقوع الثاني والثالث فلا يقع بالشك ، وإن علق بشرط فإما أن قدم الشرط على الجزاء وإما أن أخره عنه فإن قدمه بأن قال : إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق ، تعلق الكل بالشرط بالإجماع حتى لا يقع شيء قبل دخول الدار ، فإذا دخلت الدار قبل الدخول بها لا يقع إلا واحدة في قول أبي حنيفة ، وإن دخلت الدار قبل الدخول بها فيقع الثلاث بالإجماع ، لكن عند أبي حنيفة على التعاقب ، وعندهما يقع على الجمع وعلى هذا الخلاف إذا قال لأجنبية إن تزوجتك فأنت طالق وطالق وطالق فتزوجها لا يقع إلا واحدة عنده وعندهما يقع الثلاث .

ولو قال : إن تزوجتك فأنت طالق وأنت علي كظهر أمي فتزوجها طلقت ولم يصر مظاهرا منها عنده خلافا لهما ، ولو قدم الظهار على الطلاق بأن قال : إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي وأنت طالق يقع الطلاق والظهار جميعا بالإجماع ( وجه ) قولهما أنه أوقع الثلاث جملة واحدة فيقع جملة واحدة ، كما إذا قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ، ودلالة الوصف أنه جمع التطليقات الثلاث بحرف الجمع - وهو الواو - والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع لغة وشرعا : أما اللغة فإن قول القائل : جاءني زيد وزيد وزيد ، وقوله : جاءني الزيدون سواء .

وأما الشرع فإن من قال : لفلان علي ألف درهم ولفلان كان الألف بينهما كما لو قال لهذين الرجلين علي ألف درهم .

وكذا الفضولي إذا زوج رجل امرأة وفضولي آخر زوج أخت تلك المرأة من ذلك الرجل فبلغه النكاحان فقال أجزت نكاح هذه وهذه ، بطل النكاحان جميعا كما لو قال : أجزت نكاحهما فثبت أن الجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع ، ولو جمع بلفظ الجمع بأن قال : إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثلاثا لوقع الثلاث سواء دخلتها قبل الدخول بها أو بعد الدخول كذا هذا ، ولا يلزم التنجيز فإنه لو ذكر لفظ الجمع قبل الدخول بها بأن قال : أنت طالق ثلاثا يقع الثلاث ، ولو ذكر بحرف الجمع لا يقع إلا واحدة بأن قال لها : أنت طالق وطالق وطالق ; لأن العطف والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع إذا صح العطف والجمع في التنجيز لم يصح ; لأنه لما قال لها : أنت طالق فقد بانت بواحدة لعدم العدة فامتنع وقوع الثاني والثالث لانعدام محل الطلاق بخلاف التعليق بالشرط ; لأن التعليق بالشرط قد صح ، وصح التكلم بالثاني والثالث ; لأن ملكه قائم بعد التعليق فصح التكلم به ، وإذا صح التكلم بحرف الجمع صار التكلم به كالتكلم بلفظ الجمع ; ولهذا وقع الثلاث إذا أخر الشرط كذا هذا ، ولأبي حنيفة أن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق إيقاع الثلاث متفرقا في زمان ما بعد الشرط فيقتضي الوقوع متفرقا كما إذا قال لامرأته قبل الدخول بها : أنت طالق واحدة بعدها أخرى .

ولا شك أن الإيقاع إن كان متفرقا يكون بالوقوع متفرقا ; لأن الوقوع على حسب الإيقاع ; لأنه حكمه والحكم يثبت [ ص: 139 ] على وفق العلة ، والدليل عليه أنه أوقع الثلاث في زمان ما بعد الشرط ; لأن الإيقاع هو كلامه السابق إذ لا كلام منه سواه ، وكلامه متفرق فإن قوله : طالق كلام تام مبتدأ وخبر ، وقوله : وطالق معطوف على الأول تابعا فيكون خبر الأول خبرا له كأنه قال : أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق .

وهذه كلمات متفرقة فيكون الأول متفرقا ضرورة فيقتضي الوقوع متفرقا ، وهو أن يقع الأول ثم الثاني ثم الثالث ، فإن لم تكن المرأة مدخولا بها فدخول الأول يمنع وقوع الثاني والثالث عقيبه لانعدام الملك والعدة ; ولهذا لم يقع في التنجيز إلا واحدة لكون الإيقاع متفرقا إلا أن هناك أوقع متفرقا في الحال في زمان بعد الشرط ولا يلزم ما إذا قال لها : إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثلاثا فدخلتها إنه يقع الثلاث ; لأن هناك ما أوقع الثلاث متفرقا ، أوقعها جملة واحدة ; لأن قوله : أنت طالق ثلاثا موضوع العدد معلوم لغة ألا ترى أن في التنجيز كذلك ؟ فكذا في التعليق ، ولا يلزم ما إذا أخر الشرط ; لأنهم وضعوا هذا الكلام عند تأخير الشرط ذكرا لإيقاع الثلاث جملة وإن كان متفرقا من حيث الصورة لضرورة دعتهم إلى ذلك ; وهي ضرورة تدارك الغلط ; لأن الطلاق والعتاق مما يجري على اللسان غلطا من غير قصد ، فوضعوا الشرط والاستثناء في الكلام لتدارك الغلط حتى إذا لم يكن ذلك عن قصد الحق الرجل به الاستثناء فيقول : إن شاء الله تعالى أو يقول : إن دخلت الدار فصار هذا الكلام عند تأخير الشرط لإيقاع الثلاث جملة وضعا وإن كان من حيث الصورة متفرقا لحاجتهم إلى تدارك الغلط وهم أهل اللسان فلهم ولاية الوضع ، والحاجة إلى تدارك الغلط عند تأخير الشرط لا عند تقديمه فيجب العمل بحقيقة الوضع الآخر عند التقديم .

ولا يلزم ما إذا قال لامرأته : إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثم قال في اليوم الثاني : إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثم قال : في اليوم الثالث : إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثم دخلت الدار أنه يقع الثلاث ، وإن كان الإيقاع متفرقا ; لأن هناك ما أوقع الثلاث متفرقا في زمان ما بعد الشرط ; لأن ذلك الكلام ثلاثة أيمان ، كل واحدة منها جعلت علما على الانطلاق في زمان واحد بعد الشرط فكان زمان ما بعد الشرط - وهو دخول الدار - وقت الحنث في الأيمان كلها فيقع جملة ضرورة حتى لو قال لها : إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثم قال في اليوم الثاني : إن دخلت هذه الدار الأخرى فأنت طالق ثم قال في اليوم الثالث إن دخلت هذه الدار فأنت طالق لا يقع بكل دخلة إلا طلاق واحد ; لأن الموجود ثلاثة أيمان ، لكل واحد شرط على حدة بخلاف مسألتنا فإن الموجود يمين واحدة ، ولها شرط واحد .

وقد جعل الحالف جزاء هذه اليمين إيقاعات متفرقة في زمان ما بعد الشرط فلا بد من تفرق الإيقاعات في زمان ما بعد الشرط فيقع كل جزاء في زمان كما في قوله : إن دخلت هذه الدار فأنت طالق واحدة بعدها أخرى ، بخلاف ما إذا قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ونصف ; لأن هناك ما أوقع متفرقا ، بل مجتمعا ; لأن قوله : طالق ونصف اسم واحد بمسمى واحد ، وإن كان النصف معطوفا على الواحد كقولنا أحد وعشرون ونحو ذلك فكان ذلك تطليقتين على الجمع ولهذا كان في التخيير كذلك فكذلك في التعليق .

وبخلاف قوله إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة لا بل ثنتين ; لأن ذلك إيقاع الثلاث علة في زمان ما بعد الشرط ; لأنه أوقع الواحدة ثم تدارك الغلط بإقامة الثنتين مقام الواحدة والرجوع عن الأول ، والرجوع لم يصح ; لأن تعليق الطلاق لا يحتمل الرجوع عنه ، وصح إيقاع التطليقتين فكان إيقاع الثلاث بعد الشرط في زمان واحد كأنه قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا وههنا بخلافه .

وأما قوله : أنه جمع بين الإيقاعات بحرف الجمع وهو الواو ; فالجواب عنه من وجهين : أحدهما أن الواو للجمع المطلق من غير التعرض لصفة القران والترتيب ، والجمع المطلق في الوجود لا يتصور ; لأنه لا يوجد إلا مقيدا بأحد الوصفين ، فبعد ذلك حمله على القران يكون عدولا عن حقيقة الكلمة وجعلها مجازا عن كلمة مع ، ونحن نحمله على الترتيب ونجعله مجازا عن كلمة ثم فوقع التعارض فسقط الاحتجاج بحرف الواو مع ما أن الترجيح معنا من وجهين : أحدهما أن الحمل على الترتيب موافق للحقيقة لوجود الإيقاع متفرقا حقيقة لا موجب حرف الواو ، والحمل على القران يخالف الحقيقة فكان الحمل على الترتيب أولى .

والثاني أن الحمل على الترتيب يمنع من وقوع الثاني والثالث [ ص: 140 ] والحمل على القران يوجب الوقوع فلا يثبت الوقوع بالشك على الأصل المعهود إن ما لم يكن ثابتا ، ووقع الشك في ثبوته لا يثبت بالشك بخلاف مسألة الفضولي فإنه كما لا يجوز الجمع بين الأختين على المقارنة لا يجوز على الترتيب فأمكن العمل بحرف الواو فيما يقتضيه وهو الجمع المطلق ، وفي مسألة الإقرار توقف أول الكلام على آخره لضرورة تدارك الغلط والنسيان ; إذ قد يكون على إنسان حق لاثنين فيقر بكل الحق لأحدهما على السهو والغفلة ثم يتذكر فيتدارك بهذه اللفظة فوقف أول الكلام على آخره وصارت الجملة إقرارا واحدا لهما للضرورة كما قلنا في تأخير الشرط في الطلاق ، ومثل هذه الضرورة في مسألتنا منعدمة فيجب العمل بالحقيقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية