بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما حكم الإيلاء فنقول - وبالله التوفيق - إنه يتعلق بالإيلاء حكمان : حكم الحنث ، وحكم البر ، أما حكم الحنث فيختلف باختلاف المحلوف به : فإن كان الحلف بالله تعالى فهو وجوب كفارة اليمين كسائر الأيمان بالله ، وإن كان الحلف بالشرط والجزاء فلزوم المحلوف به كسائر الأيمان بالشروط والأجزية أو لزوم حكمه على تقدير وجوده على ما بينا .

وأما حكم البر فالكلام فيه في مواضع في بيان أصل الحكم ، وفي بيان وصفه ، وفي بيان وقته ، وفي بيان قدره ، أما أصل الحكم فهو [ ص: 176 ] وقوع الطلاق بعد مضي المدة من غير فيء ; لأنه بالإيلاء عزم على منع نفسه من إيفاء حقها في الجماع في المدة ، وأكد العزم باليمين فإذا مضت المدة ولم يفئ إليها مع القدرة على الفيء فقد حقق العزم المؤكد باليمين بالفعل فتأكد الظلم في حقها فتبين منه عقوبة عليه جزاء على ظلمه ، ومرحمة عليها ، ونظرا لها بتخليصها عن حباله لتتوصل إلى إيفاء حقها من زوج آخر ، وهذا عندنا .

وقال الشافعي : حكم الإيلاء في حق البر هو الوقف ، وهو أن يوقف الزوج بعد مضي المدة فيخير بين الفيء إليها بالجماع ، وبين تطليقها ، فإن أبى أجبره الحاكم على أحدهما فإن لم يفعل طلق عليه القاضي ، فاشتملت معرفة هذا الحكم على معرفة مسألتين مختلفتين : إحداهما : أنه لا يوقف المولي بعد انقضاء المدة عندنا بل يقع الطلاق عقب انقضائها بلا فصل ، وعنده يوقف ، ويخير بين الفيء والتطليق على ما بينا .

والثانية أن الفيء يجب أن يكون في المدة عندنا ، وعنده بعد مضي المدة .

والمسألتان مختلفتان بين الصحابة رضي الله عنهم احتج الشافعي بقوله تعالى { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ، وإن عزموا الطلاق } خير سبحانه ، وتعالى المولي بين الفيء ، وبين العزم على الطلاق بعد أربعة أشهر فدل أن حكم الإيلاء في حق البر هو تخيير الزوج بين الفيء والطلاق بعد المدة لا وقوع الطلاق عند مضي المدة ، وإن وقت الفيء بعد المدة لا في المدة ; ولأنه قال عز وجل { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } أي : سميع للطلاق ، فلا بد ، وأن يكون الطلاق مسموعا ، وذلك بوجود صوت الطلاق إذ غير الصوت لا يحتمل السماع ، ولو وقع الطلاق بنفس مضي المدة من غير قول وجد من الزوج أو من القاضي لم يتحقق صوت الطلاق ، فلا ينعقد سماعه ; ولأن الإيلاء يمين يمنع من الجماع أربعة أشهر ; لأن اللفظ يدل عليه فقط لا على الطلاق ، فالقول بوقوع الطلاق بمضي المدة قول بالوقوع من غير إيقاع ، وهذا لا يجوز .

( ولنا ) أن الله تعالى جعل مدة التربص أربعة أشهر والوقف يوجب الزيادة على المدة المنصوص عليها ، وهي مدة اختيار الفيء أو الطلاق من يوم أو ساعة ، فلا تجوز الزيادة إلا بدليل ، ولهذا لما جعل الشرع لسائر المدة التي بين الزوجين مقدارا معلوما من المدة ، ومدة العنين لم تحتمل الزيادة على ذلك القدر فكذا مدة الطلاق ; ولأن الفيء نقض اليمين ، ونقضها حرام في الأصل قال الله تعالى { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } إلا أنه ثبت الإطلاق في المدة بقراءة عبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب رضي الله عنهما " فإن فاءوا فيهن " فبقي النقض حراما فيما وراءها ، فلا يحل الفيء فيما وراءها فلزم القول بالفيء في المدة ، وبوقوع الطلاق بعد مضيها ; ولأن الإيلاء كان طلاقا معجلا في الجاهلية فجعله الشرع طلاقا مؤجلا ، والطلاق المؤجل يقع نفس انقضاء الأجل من غير إيقاع أحد بعده كما إذا قال لها : أنت طالق رأس الشهر .

وأما قوله : " إن الله تعالى ذكر الفيء بعد الأربعة أشهر " فنعم ، لكن هذا لا يوجب أن يكون الفيء بعد مضيها .

ألا ترى إلى قوله تعالى { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } ذكر تعالى الإمساك بمعروف بعد بلوغ الأجل ، وأنه لا يوجب الإمساك بعد مضي الأجل ، وهو العدة بل يوجب الإمساك ، وهو الرجعة في العدة ، والبينونة بعد انقضائها ، كذا ههنا .

وأما قوله تعالى { ، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } فقد قال قوم من أهل التأويل : إن المراد من قوله " سميع " في هذا الموضع أي : سميع بإيلائه ، والإيلاء مما ينطق به ، ويقال فيكون مسموعا .

وقوله تعالى " عليم " ينصرف إلى العزم أي : عليم بعزمه الطلاق ، وهو ترك الفيء ، ودليل صحة هذا التأويل أنه تعالى ذكر قوله " سميع عليم " عقيب أمرين : أحدهما يحتمل ، وهو الإيلاء ، والآخر لا يحتمل ، وهو عزم الطلاق فينصرف كل لفظ إلى ما يليق به ليفيد فائدته ، وهي كقوله تعالى { لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } عقيب ذكر الليل ، والنهار بقوله { هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا } أنه صرف إلى كل ما يليق به ليفيد فائدته ، وهو السكون إلى الليل وابتغاء الفضل إلى النهار .

كذا ههنا ; ولأنه تعالى ذكر أنه " سميع عليم " وكل مسموع معلوم وليس كل معلوم مسموعا ; لأن السماع لا يكون إلا للصوت ، فلو كان الطلاق في الإيلاء بالقول لكان مسموعا ، والإيلاء مسموع أيضا فوقعت الكفاية بذكر السميع ، فلا يتعلق بذكر العليم فائدة مبتدأة .

ولو كان الأمر على ما قلنا إن الطلاق يقع عند مضي المدة من غير قول يسمع لانصرف ذكر العليم إليه ; لأن ذلك ليس بمسموع [ ص: 177 ] حتى يغني ذكر السميع عن ذكر العليم فيتعلق بذكر العليم فائدة جديدة فكان ما قلناه أولى مع ما أنا لا نسلم أن سماع الطلاق يقف على ذكر الطلاق بحروفه .

ألا ترى أن كنايات الطلاق طلاق ، وهي مسموعة ، وإن لم يكن الطلاق مسموعا مذكورا بحروفه ، وكذا طلاق الأخرس فلم يكن من ضرورة كون الإيلاء طلاقا التلفظ بلفظ الطلاق ، فلا يقف سماع صوت الطلاق عليه وقوله : " لفظ الإيلاء لا يدل على الطلاق " ممنوع بل يدل عليه شرعا فإن الشرع جعل الإيلاء طلاقا معلقا بشرط البر فيصير الزوج بالإصرار على موجب هذه اليمين معلقا طلاقا بائنا بترك القربان أربعة أشهر كأنه قال : إذا مضت أربعة أشهر ولم أقربك فيها فأنت طالق بائن ، عرفنا ذلك بإشارة النص ، وهو قوله تعالى { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } سمى ترك الفيء في المدة عزم الطلاق ، وأخبر سبحانه ، وتعالى أنه سميع للإيلاء فدل أن الإيلاء السابق يصير طلاقا عند مضي المدة من غير فيء ، وبما ذكرنا من المعنى المعقول .

وأما صفته فقد قال أصحابنا : إن الواقع بعد مضي المدة من غير فيء طلاق بائن .

وقال الشافعي : إذا خير بعد انقضاء العدة فاختار الطلاق فهي واحدة رجعية بناء على أصله أن الطلاق بعد مضي المدة يقع بإيقاع مبتدإ ، وهو صريح الطلاق فيكون رجعيا .

( ولنا ) إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن عثمان ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم قالوا : إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة ; ولأن الطلاق إنما يقع عند مضي المدة دفعا للظلم ، فلا يندفع الظلم عنها إلا بالبائن لتتخلص عنه فتتمكن من استيفاء حقها من زوج آخر ولا يتخلص إلا بالبائن ; ولأن القول بوقوع الطلاق الرجعي يؤدي إلى العبث ; لأن الزوج إذا أبى الفيء ، والتطليق يقدم إلى الحاكم ليطلق عليه الحاكم عنده ثم إذا طلق عليه الحاكم يراجعها الزوج فيخرج فعل الحاكم مخرج العبث ، وهذا لا يجوز .

وأما قدره ، وهو قدر الواقع من الطلاق في الإيلاء ، فالأصل أن الطلاق في الإيلاء يتبع المدة لا اليمين فيتحد باتحاد المدة ، ويتعدد بتعددها ، وفي قول أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر يتبع اليمين فيتعدد بتعدد اليمين ، ويتحد باتحادها ، ولا خلاف في أن المعتبر في حق حكم الحنث هو اليمين فينظر إلى اليمين في الاتحاد ، والتعدد لا إلى المدة .

وجه قول زفر أن وقوع الطلاق ، ولزوم الكفارة حكم الإيلاء ، والإيلاء يمين فيدور الحكم مع اليمين فيتحد باتحادها ، ويتعدد بتعددها لأن الحكم يتكرر بتكرر السبب ، ويتحد باتحاده .

( ولنا ) أن الإيلاء إنما اعتبر طلاقا من الزوج لمنعه حقها في الجماع في المدة منعا مؤكدا باليمين إذ به يصير ظالما ، والمنع يتحد باتحاد المدة فيتحد الظلم فيتحد الطلاق ، ويتعدد بتعددها فيتعدد الظلم فيتعدد الطلاق ، فأما الكفارة فإنها تجب لهتك حرمة اسم الله - عز وجل - ، والهتك يتعدد بتعدد الاسم ، ويتحد باتحاده ، وعلى هذا الأصل مسائل : إذا قال لامرأته مرة واحدة : والله لا أقربك ، فلم يقربها حتى مضت المدة بانت بتطليقة واحدة ، وإن قربها لزمه كفارة واحدة لاتحاد المدة ، واليمين جميعا ، ولو قال لها في مجلس واحد : والله لا أقربك ، والله لا أقربك ، والله لا أقربك ، فإن عنى به التكرار فهو إيلاء واحد في حق حكم الحنث ، والبر جميعا حتى لو مضت أربعة أشهر ولم يقربها بانت بتطليقة واحدة ولو قربها في المدة لا يلزمه إلا كفارة واحدة ; لأن مثل هذا يذكر للتكرار في العرف ، والعادة فإذا نوى به تكرار الأول فقد نوى ما يحتمله كلامه فيصدق فيه ، وإن لم تكن له نية فهو إيلاء واحد في حق حكم البر في قول أصحابنا الثلاثة ، وثلاث في حق حكم الحنث بالإجماع ، حتى لو مضت أربعة أشهر ولم يقربها بانت بتطليقة واحدة في قول أصحابنا الثلاثة ولو قربها في المدة فعليه ثلاث كفارات بالإجماع ، وعند زفر هو ثلاث إيلاءات في حق حكم الحنث ، والبر جميعا ، وينعقد كل إيلاء من حين وجوده ، فإذا مضت أربعة أشهر ولم يفئ بتطليقة ثم إذا مضت ساعة بانت بتطليقة أخرى ثم إذا مضت ساعة أخرى بانت بتطليقة واحدة أخرى ، وإن قربها في المدة فعليه ثلاث كفارات .

وأصل هذه المسألة أن من قال لامرأته : إذا جاء غد فوالله لا أقربك ، قاله ثلاثا فجاء غد يصير موليا في حق حكم البر إيلاء واحدا عندنا ، وعنده يصير موليا ثلاث إيلاءات في حق حكم الحنث ، وإن أراد به التغليظ ، والتشديد فكذا في قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف أنه إيلاء واحد في حق حكم البر استحسانا ، وعند محمد ، وزفر هو ثلاث في حق البر ، والحنث جميعا ، وهو القياس [ ص: 178 ] أما زفر فقد مر على أصله أن الحكم لليمين لا للمدة ; لأن اليمين هي السبب الموجب للحكم وقد تعددت فيتعدد السبب بتعدد الحكم .

وأما وجه القياس لمحمد أن المدة قد اختلفت ; لأن كل واحدة من هذه الأيمان وجدت في زمان فكانت مدة كل واحدة منهما غير مدة الأخرى فصار كما لو آلى منها ثلاث مرات في ثلاث مجالس .

وجه الاستحسان أن المدد ، وإن تعددت حقيقة فهي متعددة حكما لتعذر ضبط الوقت الذي بين اليمينين عند مضي أربعة أشهر فصارت مدة الأيمان كلها مدة واحدة حكما ، والثابت حكما ملحق بالثابت حقيقة .

ولو قال : إذا جاء غد فوالله لا أقربك وإذا جاء بعد غد فوالله لا أقربك ; يصير موليا إيلاءين في حق الحنث ، والبر جميعا ، إذا جاء غد يصير موليا ، وإذا جاء بعد غد يصير موليا إيلاء آخر ، وكذلك إذا آلى منها في مجلس ، ثم آلى منها في مجلس آخر بأن قال : والله لا أقربك ، فمكث يوما ثم قال : والله لا أقربك يصير موليا إيلاءين أحدهما في الحال ، والآخر في الغد في حق الحنث ، والبر جميعا ; لأن المدد قد تعددت حقيقة ، وحكما لاختلاف ابتداء كل مدة وانتهائها ، وإمكان ضبط الوقت الذي بين اليمينين .

ولو قال : كلما دخلت هذه الدار فوالله لا أقربك ، أو قال : والله إن دخلت هذه الدار فوالله لا أقربك أو قال : والله لا أقربك كلما دخلت هذه الدار يصير موليا إيلاءين في حق البر ، وإيلاء واحدا في حق الحنث فإذا دخل الدار دخلتين ينعقد الإيلاء : الأول عند الدخلة الأولى ، والثاني عند الدخلة الثانية ، حتى لو مضت أربعة أشهر من وقت الدخلة الأولى بانت بتطليقة ، وإذا تمت أربعة أشهر من وقت الدخلة الثانية بانت بتطليقة أخرى .

ولو قربها بعد الدخلتين لا يلزمه إلا كفارة واحدة لتعدد المدة واتحاد اليمين في حكم الحنث ، والأصل فيه أن اليمين بالله تعالى متى علقت بشرط متكرر لا يتكرر انعقادها بتكرر الشرط ، واليمين بما هو شرط وجزاء إذا علقت بشرط متكرر تتكرر بتكرار الشرط .

وقوله : والله لا أقربك - يمين بالله تعالى في حق الحنث ، ويمين بالطلاق في حق البر ، ودليل هذا الأصل ، وبيان فروعه يعرف في الجامع الكبير وكذلك إذا قال : كلما دخلت واحدة من هاتين الدارين فوالله لا أقربك أو قال : كلما كلمت واحدا من هذين الرجلين فوالله لا أقربك ، فدخل إحداهما أو كلم أحدهما صار موليا ، وإذا دخل مرة أخرى أو كلمه أخرى صار موليا إيلاء آخر في حق حكم البر ، وهو إيلاء واحد في حق حكم الحنث والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية